علة تجريم زعزعة الولاء للدولة ومؤسسات الشعب بين الإبقاء والإلغاء
ذ شكيب مصبير الكاتب العام للنقابة الوطنية للعدول
حب الأوطان من الإيمان ،فالوطن ليس فقط مكوناته الإقليم والشعب والسلطة سياسية ،بل هو رمز للانتماء وهو فضاء عيشنا واستقرارنا، وهو لحمة طبيعية يعكسها روح الانتماء والتاريخ المشترك ،وهو يتجاوز الفضاء الترابي إلى الصلة الفطرية المتأصلة في نفوس المواطنين ،تحركها أبعاد تاريخية ودينية ولغوية وسياسية وإقليمية تشكل الرابطة الروحية للانتماء للوطن ،وهي رابطة تنصهر في النفس والوجود والكيان الشخصي للمواطن لتشكل هويته وماضيه وحاضره ومستقبله ،فكل مواطن يعيش ليحيا الوطن وتحيا الأمة ،وتتقدم حضارتها وتاريخها .
هذه الصلة الطبيعية التي تسمو على الإثبات وتقوى على كل العلاقات والصلات ،لارتكازها على الفطرة والطبيعة المتأصلة في بني البشر ،قد يعكر صفوها ويعبث بها عابت لم يعر أدنى اهتمام للوطنية والوطن.
ومما لاشك فيه فإن مسودة مشروع القانون الجنائي في فصلها 206 حافظت على تجريم “زعزعة ولاء المواطنين للدولة ومؤسسات الشعب المغربي ” في مشروع القانون الجنائي الحالي ،ولم يكن ذلك في السابق مثيرا لا للنقاش القانوني البناء ولا للدهشة والسخرية باعتبار الأوضاع السياسية الحرجة للفترة التي مر بها المغرب والتي وثقت تداعياتها هيئة الإنصاف والمصالحة،لكن مع الوضع الديمقراطي والحقوقي الجديد لدستور 2011 يطرح النقاش القانوني بقوة عن الغاية والمسببات بمناسبة مناقشة مسودة مشروع القانون الجنائي حول تجريم زعزعة الولاء للوطن والتنكر له بأي صورة من الصور بواسطة هبات أو هدايا أو قروضا أو أي فوائد أخرى مخصصة أو مستخدمة كليا أو جزئيا لتسيير أو تمويل نشاط أو دعاية ؟،فهل علة التجريم حماية الوطن أم المواطنين ؟وهل المواطنين قاصرين حتى يمس أحد بولائهم،وما هي حمولة هذا الولاء ؟وهل هذا النشاز يستحق فعلا أن يكون موضوع تجريم؟ ،باعتبار أن الوطن فوق هذه التجاوزات ولا يمكن أن يؤثر فيه مثل هذا التصرف لأن الوطن هو ملك للجميع وصورته تلك هي صورة المجموع بصيغة المثالي والمتفاني ،فالمساس بوحدة المملكة واستقلالها وسيادتها أملا غير قابل للنقاش ولا مفر من تجريمه والمعاقبة عليه ،ويبقى النقاش فقط في ماهية زعزعة ولاء المواطنين للوطن ومؤسساته كأحد العناصر المادية لجريمة المس بالأمن الداخلي للدولة .
أفليس الوطن غفور رحيم، ولا يمكن أن يسجل التاريخ عبت عابت بوطنه وبصورته الحية والمثالية في نفوس الضمير الجمعي للأمة ،ألا يمكن التجاوز عن متابعته باستنكار فعلته كتصرف فكري وحضاري أثره الشعبي أكبر من مجرد إدانة ظرفية لإزالة كل حماقة قد يعتبرها صاحبها بطولة ،لأن الوطن لا يهان كحقيقة لا يمسها استثناء ،لمحو واستغلال كل خطأ حقيقي أو تهمة جاهزة قد تعصف وتزعزع الانتماء للوطن الذي لا يمكن أن يخضع للتكييفات والتفسيرات الدائرة بين الإباحة والتجريم،ولا لضبط ماهيته وحدوده إما في الإقليم أو الشعب أو السلطة السياسية .فما يجب أن يجمعنا هو روح المحبة والعمل لفائدة الوطن بما يعكسه من غيرة على المواطن واحترام حقوقه وصيانة حرياته وضبط التزاماته في إطار ثقافة الحق والواجب .
وإذا ما استقر الرأي والتفسير على أن إهانة الوطن هي إهانة للضمير الجمعي مرفوضة اجتماعيا وقانونيا وسياسيا ولا يمكن أن تخضع للتجريم لأن هذا الرفض كفيل وحده بالتصدي لها إن وجدت لأنها تجلب الاحتقار والمهانة للفاعل بل والشفقة عليه لأنه صار خارج الإجماع الوطني شخصا منبوذا لا يمكن التعايش معه والتوبة أرحم له ،فإن ما يثير علامات الاستفهام والتعجب هو تجريم زعزعة الثقة بمؤسسات الوطن ،لأن مؤسسات الوطن وسلطاته الدستورية تعتبر أصلا هيئات منظمة تخضع لتجريم إهانة الهيئات المنظمة ،فما جدوى هذا التداخل بل والتناقض ؟ألا يمكن اعتبار ذلك مدخلا للإجهاز على حرية التعبير، وتحريم انتقاد المشرفين على هذه المؤسسات ؟حتى ما إذا تم توجيه سهام النقد لتسييرهم للإدارات والمرافق العمومية عد ذلك جريمة ،مما سيعزز فرضية التغول والشطط بحق المواطنين ،لأنه لا يمكن محاسبتهم ومراقبتهم .إن هذا المسلك في التجريم يتضمن انتهاكا صريحا للدستور ويعكس تصورا دونيا للمواطن والمجتمع المدني والصحافة باعتبارهم آلية للرقابة على عمل المؤسسات وتقويمها وفضح اختلالاتها واعوجاجاتها لتصحح مساراتها دعما للتخليق وحكامة المرافق العمومية بما تعنيه من جودة وشفافية والتزام بالقانون واحترام لحقوق المواطن .
إن التجريم يجب أن يشمل المسؤولين عن المؤسسات الذين يزعزون ثقة المواطن في مؤسساته وفي مبدأ الشرعية وسيادة القانون والاختيار الديمقراطي للدولة دولة الحق والقانون وليس إسكات وإلجام أصوات التغيير وتدعيم أصوات الهيمنة والتحكم والفساد باسم القانون أو الدين ،فالتقديس تقديس المواطن لا السلطة ،لأنها زائلة والمواطن باق ،فحي على العمل والبناء والمواطنة الصالحة والصحافة الملتزمة والمؤسسات الناضجة،لأن الوطن فوف الجميع به نحيا وعليه نموت،لسنا قاصرين ليزعزع ولائنا الثابت مئات السنين ،لا يزعزع إلا ولاء القانون فقط حينما يتم انتهاكه أيا ما كان مصدر الانتهاك ؟.