قراءة أولية في مشروع قانون الصحافة / د. خالد الإدريسي

جاء مشروع مدونة الصحافة بمجموعة من الايجابيات التي من شأنها أن تعزز مبدأ الحرية و تحقق نوع من التوازن بين حقوق الصحفيين في القيام برسالتهم الإعلامية النبيلة، و بين التزاماتهم القانونية و الأخلاقية التي من المفروض أن يبقوا دائما مقيدين بها من أجل أن يكون أدائهم المهني متسما بالجودة و الموضوعية و يكرس الدور الايجابي للصحافة في مجال التنمية بمعناها الشمولي.

و يمكن حصر هذه الايجابيات من خلال تقسيمها إلى أربع أنواع الأولى تتعلق بالمقتضيات الايجابية ذات الطبيعة العامة، و الثانية بالمقتضيات ذات الطبيعة الموضوعية، و الثالثة تتعلق بالمقتضيات ذات الطبيعة الإجرائية و الرابعة بالمقتضيات ذات الطبيعة المؤسساتية.

Ad image

1- بالنسبة للمقتضيات ذات الطبيعة العامة.

يمتاز مشروع مدونة الصحافة و النشر ببعض الخصائص التي راعت مجموعة من المعايير الخاصة التي أصبحت معروفة في بالتشريعات الحديثة. و لعل أول حقيقة توضح هذا الأمر هو أن هذا المشروع جاء بناء على مقاربة تشاركية ساهم فيها العديد من المتدخلون و المعنيون بهذا المجال الذين أغنوا عمل اللجنة العلمية التي عينت من أجل إدارة هذه الخطة التشاركية، مع العلم أن هذه اللجنة الأخيرة كانت تتضمن متخصصين في هذا المجال يعرفون جيدا جميع الخبايا و المشاكل التي يعاني منها قطاع الصحافة و النشر . ومن جانب آخر يمكن اعتبار فكرة إخراج مشروع مدونة يجمع بين دفتيه الكثير من القوانين المتفرقة فكرة جيدة تنسجم مع إرادة النهوض بالمجال الصحفي من خلال تسهيل مأمورية الاطلاع على القوانين المنظمة لهذا المجال وذلك من اجل حسن التطبيق و أيضا من أجل المساهمة في نشر الوعي القانوني لدى فئة الصحفيين اللذين يجهل عدد كبير منهم المقتضيات القانونية الخاصة بالمجال الصحفي، بل إن الكثير منهم يستند على قواعد أخلاقية عامة و يعتبرونها المرجع الأساسي لتنظيم سلوكهم المهني .و على مستوى آخر نلاحظ أن اعتماد مشروع المدونة على تقنية تعريف بعض المصطلحات المهمة التي تتعدد مواطن ذكرها في المواد المشكلة للمشروع هو معطى إيجابي لأنه سيساهم في القضاء على التضارب و الاختلاف في تفسير المقتضيات القانونية، و سيسهل على الآليات المفعلة لهذا المشروع أمر تطبيق مقتضياتها سواء كان ذلك من طرف القضاء أو من طرف المجلس الوطني للصحافة إضافة إلى انه يؤكد أن المشروع وصل إلى مستوى التشريعات الوطنية المقارنة أو الدولية التي أصبحت تعتمد على تقنية التعريفات من خلال باب أو فرع تمهيدي كمدخل لمواد وفصول لتشريع.

2- بالنسبة للمقتضيات ذات الطبيعة الموضوعية.

– ترسيخ مبدأ الحرية و اعتباره الأساس المتين الذي يقوم عليه العمل الصحفي ، و قد فصل المشروع عناصر هذه الحرية و خصص لكل منها فصل مستهلا، ذلك انه أكد ضرورة احترام حرية التعبير في المادة الثانية ، و رسخ الحق في الوصول إلى المعلومة في المادة الرابعة في التطابق مع ما جاء به الدستور في الفصل 27، وأوضح بشكل جيد العنصر الثالث للحرية وهو الحق في الإعلام في المادة الخامسة من خلال احترام التعددية و تقنين الدعم العمومي.

– اشتراط أن يتوفر مدير النشر على صفة صحفي مهني سيعمل على الارتقاء بالعمل الصحفي من خلال قدرته على ضبط السياسة التحريرية، و أيضا من خلال ضبطه لأدوات العمل التي تبقى ضرورية من أجل الرفع من مستوى المؤسسة الصحفية، خاصة إذا علمنا أن قانون الصحفي المهني أصبح يشترط الحصول شهادة الإجازة أو شهادة متخصصة في مجال الصحافة من أجل الحصول على بطاقة الصحافة لأول مرة.

 

– حذف المشروع بعض المقتضيات التي كانت تثير العديد من المخاوف لدى أصحاب رؤوس الأموال و تجعلها تعزف عن الاستثمار في مجال الصحافة كما هو في الفصل 15 من قانون الصحافة و النشر الحالي ، إذ أن مشروع مدونة الصحافة يوجب على من يريد أن يتحمل مسؤولية مدير النشر أن تكون له صفة صحفي مهني، وهو ما سيجعل المستثمرون يقبلون على الاستثمار مجال الصحافة من دون خوف من تحمل المسؤولية الجنائية آو المدنية التي تبقى دائما لصيقة بمدير النشر باعتباره الفاعل الأصلي.

– عمل المشروع على ضبط بعض المصطلحات الفضفاضة التي كان يسهل على القضاء أو جهات المتابعة بصفة عامة إعطائها معاني كثيرة أو إدخال الكثير من الأفعال ضمنها بشكل يؤثر على مبدأ الشرعية و الأمن القانوني، وهو ما يضر بمبدأ الحرية الذي هو أساس العمل الصحفي، ومثل هذه المصطلحات نجد مصطلح التحريض الذي حل محل المس أو الإخلال اللذان كانت توجه إليهما الكثير من الانتقادات، بينما كلمة التحريض كلمة معروفة في المجال الجنائي و ترتب أثر قانوني واضح و معين ،و هذا ما سيجعل الركن المادي الذي ينبني على هذا الفعل الإجرامي أكثر انسجاما مع مبدأ الشرعية أو من السهل الدفع بعدم توفره و بالتالي عدم اكتمال العناصر التكوينية بشكل يمكن أن تمنح على إثره البراءة لعدم اكتمال العناصر التكوينية وهو يرسخ مبدأ الحرية في العمل الصحفي.

– على مستوى الركن المعنوي ولو أن المشروع لم يبدل مجهودا على مستوى القصد الجنائي في جرائم الصحافة و لاسيما على مستوى القصد الجنائي الخاص ، إذا اقتصر في ذلك على جريمة نشر أخبار زائفة و جرائم قليلة أخرى، و لكن مع ذلك يمكن القول أن المشروع حاول أن يعطي للركن المعنوي و خاصة القصد الجنائي الخاص نوعا من الأهمية حينما نص على ضرورة الأخذ بحسن النية في تقدير التعويض على الضرر وهو ما يؤكد على أن مشروع المدونة حاول أن يوجه بطريقة غير مباشرة القضاء إلى ضرورة الاعتداد بعنصر حسن النية أو سوئها التي تمثل القصد الجنائي الخاص بخصوص النوازل المعروضة أمامه.

 

– بالنسبة للجانب العقابي ألغى المشروع جميع العقوبات السالبة للحرية و جعلها مجرد عقوبات مالية أو غرامات، وهو مؤشرا إيجابي يدل على مستوى الوعي الذي وصلت إليه الجهات الرسمية للدولة من خلال تدعيم مبدأ حرية الصحافة و القضاء على أهم معيقاته وهي العقوبات السالبة للحرية التي لا طالما ثم استعمالها للتنكبل بالصحفيين و إغلاق أفواههم و التضييق على حرية التعبير. و لذلك فهذا الإلغاء على مستوى العقوبات السالبة للحرية سيزيل هاجس الخوف على الصحفيين و سيجعلهم أكثر جرأة و حرية في ممارسة الصحفي.

3- بالنسبة للمقتضيات ذات الطبيعة الإجرائية.

إضافة الى المقتضيات الموضوعية المذكورة أعلاه عل سبيل المثال لا الحصر هناك أيضا أحكام أخرى ذات طبيعة إجرائية تنسجم بشكل اكبر مع مبدأ المحاكمة العادلة ومع منح العديد من الضمانات الإجرائية من اجل تمكين الصحفيين من أداء رسالتهم الإعلامية على أكمل وجه، من دون ضغط أو خوف أو تضييق .ومن ضمن هذه الضمانات الإجرائية على مستوى مشروع مدونة الصحافة الجديدة نجد :

– على مستوى الاختصاص المكاني دقق المشروع في معايير الاختصاص ولو أن هذا الأمر يستشف فقط من المذكرة الصادرة عن وزارة لاتصال حول مشروع مدونة الصحافة التي أكدت على أنه تمت الاستجابة إلى مطالب المهنيين فيما يخص المقتضى الخاص بالاختصاص المكاني للمخالفات، حيث تم حذف مكان التوزيع، وربطه بمكان الطباعة عندما يتعلق الأمر بمسؤولية الطابع . لأنه بالتأمل في مقتضيات المادة 103 من المشروع نجد على أنه لا جديد يذكر بالنسبة لموضوع الاختصاص المكاني و تم الاحتفاظ تقريبا بنفس الصيغة الموجودة في قانون الصحافة و النشر الحالي فيما يخص النشرات الوطنية ،و الجديد يخص فقط الاختصاص فيما يتعلق بالمطبوعات الدورية المستوردة من الخارج أو التي تعذر معرفة مكان طبعها ،بأن تم جعل الاختصاص للبت فيها يعود بشكل حصري للمحكمة الابتدائية بالرباط.

– من بين الضمانات الإجرائية التي جاء بها المشروع أيضا هو رفع القيد الذي كان مفروضا على الصحفي من خلال إلزامه بتقديم أدلة الإثبات طيلة مراحل الدعوى، ولو أن هذا المقتضي نستشفه فقط من خلال المذكرة الصادرة عن وزارة الاتصال، لأنه بالتأمل في المقتضيات المادة 120 من المنظمة للفصل الذي يتحدث عن صحة الادعاءات أو مايسمى في القواعد العامة بالدفع بالحقيقة فسيتبين على أن هذا الكلام غير صحيح و انه بالفعل هناك تغيير لكن ليس لدرجة السماح بالإثبات طيلة مراحل الدعوى، و لكن فقط باستبدال اجل الإدلاء بهذه الوثائق و المستندات المتبثة لمضمون القذف من 15 يوما إلى 20 يوما ، وهو تطور لا يمكن إنكاره ، و لكنه لا يصل إلى المستوى المرغوب الوصول إليه و المؤكد في مذكرة وزارة الاتصال، رغم أننا نبقى دائما على أمل من أجل إعادة صياغة هذا المقتضى القانوني الوارد في المادة 120 من مشروع حتى يواكب الأهداف الكبرى المعلن عنها من طرف الوزارة الوصية.

 

– جاء المشروع أيضا ببعض المستجدات التشريعية التي قام من خلالها بضبط و تدقيق بعض الإجراءات المسطرية خاصة فيما يتعلق بحق الرد و التصحيح ، حيث قام بتفصيله بشكل دقيق من خلاله توضح مضمونه و حدوده و كيفية طلبه و شكليات هذا الطلب و أيضا الرد و التصحيح المتعلق بالصحافة الاليكترونية ، وهو ما يعبر على آن المشروع حاول أن يدقق بشكل جيد في هذا المعطى الإجرائي لاسيما أنه يمكن أن يجعل الكثير من منازعات الصحافة تحفظ بطريقة توافقية ومن دون الوصول إلى القضاء خاصة أن المشروع في هذا الباب ينص على الدور الذي يمكن أن يلعبه المجلس الوطني للصحافة في هذا الإطار . ولكن مع ذلك يبقى هناك مقتضى إجرائي آخر يمكن أن يفرغ كل ماسبق من محتواه الايجابي من خلال السماح في المادة 124 من المشروع لكل متضرر من اللجوء إلى القضاء رغم إدراج التصحيح أو الرد ، وهو نفس المقتضى الذي كان منصوصا عليه في الفصل 26 من قانون الصحافة و النشر الحالي . و لكن رغم ذلك يبقى هناك تطور في المجال الذي خصص له المشروع خمسة فصول بدل الفصلين الذي كان ينظم من خلالها هذا الحق الذي يعرف بالاستدراك و حق الجواب في قانون الصحافة و النشر.

4 بالنسبة للمقتضيات ذات الطبيعة المؤسساتية.

تضمن مشروع مدونة الصحافة و النشر إضافة إلى المقتضيات ذات الطبيعة الموضوعية و الإجرائية المذكورة أعلاه على سبيل المثال، العديد من المقتضيات الأخرى التي لها صبغة مؤسساتية، و كأن معدي المشروع كان لهم وعي أكيد على أن ما ينقص الإطار النشر هي في مجال الصحافة هو موضوع الاجرأة و التطبيق و التفعيل، ولذلك فهو قد اهتم اهتماما بالغا بالجانب المؤسساتي من خلال وضع آليات مؤسساتية متعددة من أجل السهر على تفعيل الإطار التشريعي و القانوني المتعلق بمجال الصحافة .و من بين هذه الآليات المؤسساتية نجد :

– تفعيل مؤسسة القضاء الجالس من خلال جعل الهيئة التي تبث في المجال قضايا الصحافة ذات طابع جماعي وهذا يؤكد حرص المشروع على ضرورة إيلاء أهمية قصوى لملفات الصحافة و يظهر أيضا الاهتمام التشريعي بمؤسسة القضاء الجالس من خلال تقوية مجالات تدخله في مجال الإعلام سواء فيما يتعلق بالإنشاء أو الإدارة أو بالمنازعات ، و تحجيم دور الإدارة في هذا المجال، وجعل دورها يقتصر فقط في الطلبات التي تقدم إلى القضاء و التي تبت فيها باعتبار الإدارة طرف في عملية المخاصمة ، و بالتالي انتزاع امتياز القرار السابق الذي كانت تستند إليه الإدارة للتدخل في توقيف أو حجز النشرات و المطبوعات الوطنية أو الأجنبية .ورغم أن المشروع قام بتنفيذ القضاء في بعض المقتضيات مثل تجديد معايير الحكم بالتعويض ولوأنها محصورة فقط بالنسبة لجرائم المس بالحياة الخاصة أو الحق في الصورة ، إلا أن معايير يمكن للقضاء اعتبارها مرجعا بالنسبة للحكم بالتعويض عن باقي الجرائم، و أيضا كان هناك تقييد بالنسبة لإلزام القضاء باعتبار ظروف التخفيف في جميع الحالات و الحكم و فقها ولم تعد هناك استثناءات كما هو الحال في الفصل 41 من قانون الصحافة و النشر، إضافة إلى سحب إمكانية الحكم بعقوبة حبسية أو سالبة للحرية في حالة العود في انسجام مع مبدأ إلغاء العقوبات السالبة للحرية من مشروع مدونة الصحافة، وهذه التعديلات من شأنها أن تعيد من تعسفات القضاء الذي كان يجد فيها مضي العديد من النصوص القانونية التي تفتح له المجال من أجل التضييق على حرية الصحافة و توقيف المطبوعات ومحاكمة الصحفيين. ناهيك على أن إدراج المشروع لإمكانية التعويض على الأخطاء القضائية مقتضيا بالمبدأ الدستوري فيه تحميل أعباء على كاهل القضاء من أجل التثبت ومراقبة الشرعية ومبادئ المحاكمة العادلة فيما يمكن أنت تحكم به من أحكام وقرارات. كما يشكل تقليص سلطة القضاء في مواجهة الدفاع من خلال تأكيد المشروع على أن النزاعات المترتبة عن السب والقذف يجب أن يتم رفعها إلى الوكيل العام للملك ولنقيب هيئة المحامين، وبالتالي إلغاء اختصاص القضاء في توقيف الدفاع فيه ضمانة من أجل تحسين وضع الدفاع أمام القضاء وهذا فيه ترسيخ لمبدأ حق الدفاع الذي يعتبر من أهم مبادئ المحاكمة العادلة.

– تقوية دور النيابة العامة من خلال تنوع الاختصاصات والمساطر والطلبات والملتمسات التي أصبح يسمح لهذا الجهاز القيام بها، وهذا الأمر ولو أنه في بعض الأحيان يؤدي إلى التضييق على حرية الصحافة خاصة إذا استعملت هذه المؤسسة هذه الإمكانيات التشريعية المفتوحة أمامها بشكل تعسفي. لكننا مع ذلك نلاحظ على أن المشروع عمل إدراج مقتضيات أخرى تخفف من تسلط النيابة العامة، وتحقق بعض التوازن بين حقوق والتزامات المؤسسة الممثلة للحق العام، من قبيل إلغاء الاعتقال الاحتياطي، وإعطاء الإمكانية القانونية للمتضرر من أجل رفع دعوى تعويض ضد الحجز التعسفي الذي يمكن أن تأمر بإجرائه النيابة العامة، ناهيك على أن اعتبار بعض قرارات هذ