“لماذا لا نقيم في لذة الحياة دون أن نحترق بنار الفناء بالموت؟

إخترنا لكم اليوم أجمل  ما قرأناه خلال هذا الأسبوع للقاصة الرائعة زهرة عز
ويرجى تفاعلكم معنا بالتعليق والرأي .
“لماذا لا نقيم في لذة الحياة دون أن نحترق بنار الفناء بالموت؟ ” من “انقطاعات الموت” للروائي البرتغالي “خوسيه ساراماغو”
في مديح الحبّ  :
عمّ الإضراب عن العمل كل العالم.. الحوذيون، السباكة، الصيّادون، عمال المناجم، الساسة، سوّاق الدرّاجات، الأمهات بالبيوت.. الكلّ.. حتى الحبُّ يومها امتنع عن العمل.. اقتربت سايكي تلاعب شعر آريوس بحنان، وهي تهمس له بكلمات حبها الأبدي، وضعت قبلة على عينه المتورّمة الدامعة، لم يكن آريوس ليستجيب لها.. تتراءى له سايكي دائما أكثر نساء العالم اهتماما بوجود الحب.. لا زال يذكر، وهو يجول بالأرض من أجل الحب، لمّا تلقّى صفعة قوية أرعبت الفرح داخله وأحزنت قلبه الجميل، كان يحلق بأمان يطمئن على كل بذور الحب التي نثرها بقلوب عشاق أصابت سهامه الذهبية منهم مقتلًا. نادرًا ما كان يرمي بسهامه الرصاصية، المانعة للحب، بل لم يكن يرميها إلا في حالات قليلة جدًا بعد انتقادات والده آريز، عاشق الخراب والدمار، تفاديًا لغضباته غير المتوقّعة وهو شديد الانفعال، وعندما كان آريوس يرمي بنباله الرصاصية، كان يغمض عينيه حتى لا يرى تأثيرها المدمّر ومن يصاب بها، ألا ترى الحقد والكره قد غرسا في كل بقاع العالم بدرجات متفاوتة؟ ما زعزع طمأنينته الْيَوْمَ هو اكتشافه المريع، لقد فقد الثقة بسهامه الذهبية، سهام الحب.. أغمض عينيه بألم وبصوت جريح بدأ بوحه: امتطيت غيمات منخفضة، متنقلًا من أقصى الأرض إلى أقصاها، ثم نزلت لأستريح قليلًا بعد يوم شاق، لقد أشعل والدي آريوس وعمتي أثينا فتائل الحروب، فاندلعت في كل مكان، وعمّ الخراب والدمار، مهمتي أصبحت أكثر صعوبة وشبه مستحيلة، انشغل الناس بالكره ووجدوا في الحقد وإراقة الدماء ملاذًا لضعفهم، يعزّز أنانيتهم وسطوتهم، ويضاعف سلطتهم، لذلك كانت قلوبهم متحجّرة حدّ أنني لم أستطع اختراق بعضها، ورشقها بسهام الحب. اخترت حديقة غنّاء، وجلست بين أشجار الياسمين أستمتع بزقزقة العصافير والهواء العليل، عندما سمعت أنينًا خافتًا ينبعث من مكان قريب، كان أنينًا موجعًا أدمى قلبي، اقتربت أكثر، سيدة في مقتبل العمر تذرف دموعًا حارقة تحكي قصتها أنينًا ووجعًا، فجأة استوت واقفة سحبت خاتمًا من أصبعها ورمت به بغضب في الهواء وهي تلعن الحبّ و”لوكابيد”، صبّت جام غضبها علي، فمرّة تلعنني باسم لوكابيد ومرة باسم إيروس. كنت أقف غير مرئي، أصابني الخاتم، وضعت يدي على عيني المتورمة تم التقطته وأنا أرتّب كلماتها المبعثرة.. “نُسيتُ وكأنني لم أكن، بعدما كنت محور سعادته ومبدّدة أحزانه، كم تغنّى بي وأقسم أنه يحبني ولن يهجرني، وفي رمشة عين تنكّر لكل وعوده ورحل، تنكّر لأيادي البيضاء وهي تخفّف عنه وجعه وتكفكف دمعته.” لم تلمح حيرتي واضطرابي. وتابعت: الحب وهم، نعم هو كذلك، مجرّد وهم وإله الحب إيروس وسهامه الوهم الأكبر، ليس هناك حب خالد ولا أبدي، بل ليس هناك حب. الحب لا يجرح ولا يقتات من أصحابه”.. وفيما أبعد إيروس يد حبيبته سايكي برفق، ونظر إلى عيونها الحائرة.. بدت ملامحها الحائرة تغوص بذاكرته.. فلم يجد بدّا من أن يسترسل ليحكي لها بوهن عن يومه الحزين. أصابتني المرأة في عيني فانقشع عني الحجاب، أتتذكرين حبيبتي عندما نزلت قطرة الزيت على صدري من القنديل وأنت تحملينه خلسة للنظر إلى وجهي وأنا نائم بالظلام بعدما أثارك الفضول وتحريض أخواتك، وكنت قد منعتك من ذلك؟ الخاتم كان كنقطة الزيت التي أيقظتني وجعلتني مرئيًا. نظرت إلي المرأة وهي ترتعش دون خوف، استجمعت قواها واتجهت نحوي مهرولة، أمسكت بجناحي بقسوة وهي تحاول أن تنتزع قوسي، أشعرتني إنني أسوأ من أبي إيروس إله الحرب، أنثر الحب في القلوب، لكن بذوري ملوثة لذلك لا تزهرّ أبدا، وسرعان ما يذبل الحب. – جدير بك أن ترمي سهامك الذهبية بالجحيم إنه مكانها الطبيعي، سهامك مخدّر قاتل بل سمّ يتغلغل إلى القلوب تشعر بدفئه ولذته حدّ التوهان والإغماء بالبداية، لكن سرعان ما يتبخر سحر تخديره وينخر السم كل ذرّة بالروح والقلب. أنت مثله، قاتلي، ولن تفلت من يدي. صرخت بهستيرية وهي تنتزع ريش أجنحتي. فجأة رمتني بنظرة حزينة قاتلة، لملمتْ شظايا قلبها المنكسر وريشي المبعثر وتركتني واجمًا أحاول فك اللغز، لِمٓ سهامي الذهبية ملعونة وملوثة؟ لِم تتغير القلوب العاشقة؟ وفيما يشبه غمغمة خائرة، حاولت سايكي أن تخفف عن حبيبها آريوس عذابه وإحساسه بالذنب، لكن دون جدوى، غامت من حولها الغرفة.. حتى استسلمت لسنة من النوم وفي ما يشابه الأحلام تفتّق ذهنها عن حل يبدّد حزن حبيبها، ستذهب للقاء المرأة وتقايض ريش آريوس، ألم تكن يومًا آدمية وتعرف كيف تفكر النساء؟ وهو يتقلب على سرير الشوك مفكرًا في حيرته.. نظر إيريس إلى حبيبته الجميلة مستغرقة بنوم هادئ، استرجع لقاءه الأول بها وكيف أصيب بسهم من سهامه وعشقها وعشقته حدّ الخلود. قفز من مكانه وقد أدرك أمرًا لم يخطر بباله من قبل، عندما أصابه السهم سقطت قطرة من دمه بجراب سهامه الذهبية، ربّما لوثت بعضها؛ إذًا هي لعنة جده أورانوس. جلس يفكر بعمق، تذكر والدته أفروديت إلهة الجمال، كيف تكونت من رغوة الدم والمني، ثم كان هو ثمرة ارتباط بين الجميلة أفروديت وإله الحرب آريوس، هي إذن لعنة العقوق والغدر والجحود والكره تسري بدمه، لذلك يتنكر بعض العشاق للحب ويكذبون في قسمهم، ووفائهم. أطرق لوكابيد مقطبًا، يفكر في حلّ يزيل كل الشوائب الملوثة عن سهامه، ثم تمدد قليلًا ليريح جناحه المجروح وقلبه، بينما تسللت حبيبته خارج الفراش نادت على زافيروس إله الريح، حملها بين ذراعيه برفق ونزل بها إلى الأرض. وغير بعيد عن الريح، فتحت السيدة الحزينة نافذة غرفتها الوردية، نظرت إلى السماء وقد اختفت كل النجوم، ثم رنت بنظرها تجاه الحديقة تبغي استنشاق عبيرها لكن العطر كان قد غادر أيضًا الياسمين. تساءلت عن جدوى وجودها وسط هذا الخواء، وهي تحاول التحرر من قلق جثم على قلبها وأحكم تكبيله حدّ الغثيان، وفجأة ظهر لها الجمال متجليًا بحسناء تركب الريح أنساها لوهلة وجعها، اقتربت سايكي برفق حتى لامست أنفاسها المتسارعة، وضعت يدها على قلب السيدة المرتجف، فسكن من روعه: – أنا زوجة آريوس إله الحب، لوكابيد اسمه الثاني، وجئت لاستعادة ريشه، مازال جناح حبيبي ينزف، آريوس يتألم. – ومن سيوقف نزيف قلبي وقد تسبب فيه زوجك؟ – ماذا لو أهديك تجربتي لتخلدي بالحب والسلام.. مؤكد، ستتعافين!. – الخلود.. السلام..! أردفت سايكي: في رحلتي الضبابية بحثًا عن حبي آريوس بعدما هجرني عقابًا لعصياني له، أخضعتني أمه الغاضبة إلهة الجمال أفروديت لثلاثة اختبارات تعجيزية إذا اجتزتها عرفت طريقه.. وهكذا كان، الاختبار الأول علمني أن الحب يحتاج لطاقة حتى يستمر، فكان النمل مادتي في تحقيق المهمة وفرز الحبوب. ومن الاختبار الثاني تعلمت أن الحكمة والعقل هي جوهر الحب لولاهما ما استطعت جزَ صوف الخرفان الضارية. أما الاختبار الثالث فهو إحضار صندوق الجمال الأبدي لأفروديت من العالم السفلي، وسقوطي تحت سحره ثم نومي فقد منحني يقظة روحية واستنارًا داخلي بعد قبلة آريوس الذي هبّ لإيقاظي ومنحني النضج والخلود. لم تقو المرأة النازف قلبها، بادرتها بلين ومرارة: أشعرتني بحرارة التجربة.. – أيكون الحب فن وطاقة وعقل وحكمة ونور ويقظة؟.. واستأنفت حديثها سايكي بنفس الروح، والنضج والأمل.. – الحب يا حبيبتي، امتداد لروحك لذلك عليك تعلم فنونه واجتياز كل اختباراته بحكمة، سلاحك الوحيد طاقة التحدي ونور العقل، وزادك وعي وإدراك ونضج، وعندما تنيرين دهاليز عمقك ستعثرين على حبك الضائع. كانت السيدة تشرب بارتياح كأس بوح سايكي حدّ الثمالة، ثم انتفضت فجأة وسألتها: – أين اختفت النجوم وأين الياسمين؟ مدت لها سايكي خاتمها ويدًا ناعمة، امتطيا الريح ونزلا بالحديقة، كانت كشعلة متوهجة، والنجوم قد غادرت السماء لتحطّ على الزهر والشجر، وهناك جمع غفير من العشاق يدورون حول الياسمين المنيرة مرددين قسم الحب الخالد.. “أقسِمُ، أُقسِمُ، ألا أفعل شيئًا وألا أتفوّه في حياتي بما لا يكون باسم إيروس (الحب الحقيقي). ابتسمت السيدة وهي تردد مع العشاق قسم الحب، وتناولت سايكي ريش إيروس الناصع البياض.. لمّا تدلّى الصباح الباكر، فتح إيروس عينيه وقد استعادتا بريقهما، وكان وجه حبيبته مبتسمًا وهي تناوله ريش جناحه المنزوع، طبع قبلة على جبينها الوضاح، حمل قوسه، ثم توجه إلى النهر المقدس لتطهير سهامه الذهبية. وهناك بالأرض الفانية استيقظت السيدة في الصباح، كانت رائحة الياسمين تعبق المكان، ابتسم قلبها وهي تتناول خاتمها من درج قريب، أعادت وضعه بأصبعها، وحضن حلمها الوردي مازال يدثرها، ثم فتحت النافذة على مصراعيها وعلى أمل عودة حبيبها الغائب. تمطّت السيدة بسعادة وأغمضت عينيها مبتسمة وكل خليّة داخل روحها تصدح بكلمات جلال الدين الرومي “الطريق إلى السماء داخلك، فقط حرّك أجنحة العشق..” أما سايكي أحسّت أنها خرجت من دائرة الزمن وأنها تمتلك العالم بقلبها العاشق.. لقد استيقظ وعيها الكوني واكتمل، إنها كقطرة ماء.. هي المحيط عندما تذوب في المحيط، كما قال المتصوف أنجيلوس سيليسيوس، أحست بأنها خفيفة كريشة لوكابيد، شفافة كقطرة ماء، أدركت أنها هي العشق. يتململ.. يتحرك.. انظر حبيبي: نشط العالم، كل العالم.. تحرّك الحوذيون، والسباكة، والصيّادون، وعمال المناجم، والساسة، وسوّاق الدرّاجات، والأمهات بالبيوت.. الكلّ.. حتى الحبُّ يستأنف الآن عمله..