بركن منزو في معبده وسط كومة من الكتب والأوراق المبعثرة، جلس القرفصاء يفكّر بعمق وهو يداعب شعيرات لحيثه الكثّة. هبّ واقفا وقد أضمر شيئا في نفسه. على عجالة من أمره تناول مجموعة من الأوراق وضعها بكرّاسته، سنّ قلمه وقرّر أن يهدم حصن الإعتكاف وينطلق ليواجه الشياطين ومخاوفه.. طالعته صورته بالمرآة المعلّقة على الجدار العاري، ولم يدر متى ولا كيف أنبتت لحيته سنابل بيضاء، ولا متى حفر الزمن أخاديد على جبينه؟ ورغم الصورة الكئيبة التي عكستها المرآة فقد أحبّها ووجدها أكثر انسيابا وتطابقا مع نفسيته. تحيطها هالة غامضة رأى فيها قدسية لامتناهية لذلك ابتسم لصورته القاتمة. وهو يغادر وحدته، مسرع الخطى. ظلّ يبحث عن طريق الحقيقة مدجّجا بدرع حصين وسيف لايقهر. كرّاسة قديمة وقلما صدئا.. وجد أمّه الحزينة أسفل الدرج تنتظر نزوله من السطح، مسحت على رأسه بعطف وناولته كمّامة.. لم يفهم. خرج للشارع وتفاجأ بمجموعات متفرقة من الناس توزع مناشير لأشخاص يبتسمون ابتسامات صفراء، وتهتف بأسمائهم أصوات باهتة خنقتها كمامات سوداء. اختلط الحابل بالنابل كأنما هو خارج الزمان والمكان وبسوق عكاظ. تعرّف على أغلبيتهم، فصورهم عالقة بذاكرته الطفولية. ولم يكن يعرف أن لطقوس الانتخابات روائح تزكم النفوس… هرول بعيدا عنهم، وجهته الغابة على أطراف المدينة. مقتنع تماما أن الشياطين تتوالد هناك. رمى القناع بعيدا، كان القمر يرمي بظلاله على أشجار باسقة متشابكة عندما اخترق العتمة بمعطفه الأسود وجسده الهزيل. سمع خشخشة بين الأوراق، استلّ قلمه وتحصّن بكراسته مواجها المجهول. غمرته شجاعة أدهشته، توّجه نحو أقرب شجرة اقتلع غصنا منها ولوّح به يمينا ويسارا. سيقضي الليلة على شياطين الإحتيال والتّفاهة والبلاهة! وحتى يرعبهم، صرخ بصوت جَهِرٍ لم يسمع له صدى. تاهت تعبيرات وجهه وهو يتحسّس منافذ خروج كلماته أدرك حينها موت لسانه بعدما أقبرت كلّ حروفه. سيصارعهم إذن بصمته وقلمه المسنون. رفع كراسته عاليا حتى تناثرت كلّ المقالات التي كتبها ذات خلوة. تناهى إلى مسمعه سقوط مدوٍّ بين الأشجار. لاشكّ أن شيطانا لئيما انتحر هروبا من مواجهته.. رقص حبورا ورقص معه ظلّه الهزيل. ساد بعدها سكون رهيب زاد من ضياعه ورأى الأشجار وقد مدّت آذنها وعيونها فضولا لترى من هذا الغريب الآتي من العدم ليقلق راحتها ويزعج شياطينها؟ من هذا الهزيل المدجّج بقلمه الصّدئ وكرّاسته الباهتة؟ خرّ ساجدا بينما انهمرت دموعه غيثا، لغة كونية يفهمها الحجر والطير والشجر. ترتوي منها الأرض وتربو، وتحت ضوء القمر تتفتّح لأجلها زنابق بيضاء. وهو يتابع المشهد بانبهار، دقّات قلبه ظلّت تضرب بقوّة حتّى تناغمت مع دقّات أوتاره أجراس الزنابق الجميلة.. ها هو يلمح على جذع كل زنبقة قدما وفيّا لجذوعه يتعلق بلحاها ويزيد من هزّ الأجراس حتى يوقظ الجن فقد حان وقت الصلاة.. من مخدعها، أطلّت عليه مخلوقات نورانية صغيرة، نظرت اليه معاتبة بعدما أيقظها من أحلامها الوردية، وعندما رأت حالته المزرية، حنّت له القلوب ورقّت. اقترب منه جني شجاع وحطّ على كتفه وهمس في أذنه بسرّ الغابة.. ندين لوجودنا لعضّة هرقل الرضيع لحلمة ثدي هيرا، لولاها لما تناثرت قطرات الحليب ولما أنبتت الغابة زنابق بيضاء مسكننا.. ألا تعلم أن هرقل بطل المستضعفين ، وحامي المظلومين؟ جوابك عنده أيها المسكين! وما كاد يتمّ حديثه حتى أطلق فارس ساقيه للريح، حاملا قلبه وقلمه بيده مدججا بكراسته . انطلق مسرعا حتّى أنه لم يلملم شظايا افكاره المتناثرة وسط الاشجار. دلف إلى المغارة على أطراف أصابعه مخافة أن يوقظ هرقل العظيم. لازال يذكر أنه قرأ مرّة في إحدى غضباته، ضرب الجبل بقبضة يده حتى انشطر نصفين مبعدا إفريقيا عن أختها أوروبا. وليكفّر عن ذنبه، اتخذ هرقل من مغارة طنجة مرقدا له حتى يغتسل عند طلوع كل شمس من مياه المتوسط والأطلسي، فقد تبنّاهما لطيبتهما، فمع كل مدّ وجزر، بأمواجهما العالية يقبّلان أعتابه باحترام. فتح هرقل عينيه بهدوء وعندما وقع نظره على فارس استقرأ كل أفكاره من عيونه الزائغة فوقف على حيرته ومعاناته. طلب منه أن يقترب ويعلن عن طلبه فهو مجاب مسبّقا. انحنى الضعيف على أذن هرقل العظيم وشوش له بألم: – “أبثك همّي هرقل الشجاع، فحشرة العث الخبيث تنخر الجيوب والجسد بنهم وكل الثقوب عصيّة على الرّتق.. أحتاج نفسا باردة من روحك الشجاعة لتدكّ أعشاشه.. وربما توقظ البحر الساكن بقبضتك الحديدية فلولا صممه لما عاثت الحيتان خرابا وتراقصت طربا حول الأسماك المنهكة، فقد تتوارى الحيتان و تشرب الأسماك الضمأى حدّ الثمالة والشبع.. أحْمِل الْي بعضا من موج البحر الصاخب سأنتقي كل الملح وأضمد جراح الثقوب لأذيق الحشرة عذاب المرارة ،،، اِحْمِل ْ الي بعضا من ريش النوارس الهاربة قهرا أصنع منها مكنسة فالخريف قد أخلف وعده ولم يكنس أوراق أشجاره الذابلة… الزواحف ملأت كلّ الأمكنة وسدّت جميع المنافذ وكلّ الغرقى في البؤس متشبثون بآهاتهم حدّ اليأس. عالمنا الان سيدي ، قاتم وصامت صمت القبور، ألسنتنا انتحرت في جحورها وتوالدت الخطايا. نحن تائهون وسط المرارة والعتمة ورقصات الشياطين.. فأين المفرّ عندما يصبح الكذب حقيقة والحقيقة حافية ابحث عن حذائها الضّائع؟ أين أجد علاجا ناجعا لمرض الكراسي المزمن والقلوب المتخشّبة؟ كيف نعيد النوارس لأوكارها ؟ وكيف نغتسل بضوء الشمس؟ أطرق هرقل مفكرا بعمق وبصوت هامس قال: تجربة الترقب والانتظار مريرة.. هذا العث يقتات من الظلام والعفن.. والحيتان المجنونة لا تستوطن الا البحار الملوثة.. اغمر الجسد بنور الشمس وامسح ظله المستكين حتى يستوي شامخا معافى.. وانثر بعضا من ذرات أمل بعيون الأسماك لتحيا وينظف البحر.. ثم تنهد حتى ارتجّت من تحته الأرض وتشقّقت جدران مغارته من صدى صرخته وهو يقول بصوت جهوري: هل لفاقد الشيء أن يعطيه؟ صوتكم أبكم.. افتحوا باب الكهف ليدخل الضوء وتتبخر الأصوات الناشزة.. زمنكم زمن العبث بامتياز.. الان وليس غذا فاصل بين الماضي والمستقبل.. عليكم بتصحيح المسار حتى لا تتوقف ساعتكم الرملية.. انطلق الفارس سعيدا، بعيدا… بعدما تشبّعت روحه بنور الفجر.. مع تباشير الصباح، مندفعا نحو أشعة الشمس المستيقظة من سباتها.. تسمرت أوراقه البيضاء في المدى البعيد.. ولم يبق بالأفق غير جملة سحرية تومض حينا بالنور: وحينا يتهجى حروفها: إياكم… إن حشرة العثّ تلك تخاف الضّوء..! د . زهرة عز