التعاون والمروءة في الوسائل البديلة في اتفاقية فيينا (3)

المبحث الثاني: نطاق تطبيق مبدأ التعاون والمروءة في التحكيم التجاري

الدولي على ضوء اتفاقية فيينا

التحكيم هو وسيلة بديلة عن قضاء الدولة يؤسس على رضاء الاطراف، يعهد بمقتضاه الى شخص خاص ” المحكم ” بمهمة الفصل في نزاع بمقتضى قرار له قيمة قضائية  وهو قد يكون داخليا وقد يكون دوليا. والتحكيم الدولي يقصد به في مجال علاقات التجارة الدولية والمصالح الخارجية لأطراف النزاع والتي تكشف إرادتها المشتركة على ان التحكيم ناشئ عن علاقات تجارية دولية او مصالح خارجية اي خارج الدول التي ينتمون اليها .
وعرفه المشرع الفرنسي في  المادة 1492 من قانون المرافعات المدنية الجديدة ” يعتبر دوليا التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية والمحكم الدولي يعتبر ” شخصا خاصا ” Personne Privé  او كما يوصف ” قاضيا خاصا ” un juge privé يعمــل بأجر غير تابع للسلطة القضائية لأي دولة ، وبناء عليه فهو لا يحكم ولا يطبق القانون ولا يحكم النزاع المعروض امامه باسم أي دولة مهما كانت  وانما باسمه الشخصي ، ومن ثم فهو لا يسهر على كفالة احترام النظام القانوني لأي دولة لأنه يستمد سلطته – في حسم النزاع – ممن منحوه هذه الصفة أي من الأطراف في العقد  ولذا يقال ان مصدر هذه السلطة اتفاقي وان وظيفة المحكم في النزاع بين الأطراف وليس حماية القانون  وينتج عما سبق ان المحكم الدولي لا يملك قانون قاضي LEX FORI     فهو من صنع الأطراف في العقد وغير تابع لأي دولة ومن تم لا يوجد قانون ما مفروض عليه الا ما يحدده الأطراف له ، اما اذا لم يحددوا هذا القانون فهو حر في تحديده      للقواعد القانونية التي يحسم على أساسها النزاع وهنا يطرح التساؤل عن حدود هذه الحرية بخصوص الاتفاقيات التي أضحت ذات سمة عالمية مثل ” اتفاقية الأمم المتحدة بشان البيع الدولي للبضائع “فيينا 1980 فما مدى التزام المحكم الدولي بتطبيق الاحكام الواردة في هذه الاتفاقية ؟
هل يلتزم بان يحسم النزاع على أساس مقتضى القواعد التي تحتويها؟ أم انه في حل منها بحيث يمكنه تطبيقها او عدم تطبيقها؟                                                                             المحكم الدولي له ان يحسم النزاع على أساس من احكام الاتفاقية ، وله ان يتجنب تطبيقها لكن الجدير بالملاحظة ان المحكم يستند على ما تقرره قواعد الاتفاقية عند حسم المنازعات التي تعرض عليهم والى تبني نماذج الحلول التي تفرزها اتفاقية فيينا ، لاسيما القواعد القانونية التي تقرها والتي تترجم ارتباط الدول الأعضاء فيها بقيم عليا ذات سمة أخلاقية ظاهرة تستوجب الاحترام الكامل لها من الكافة مثل مبدا حسن النية الذي تقره المادة السابعة من الاتفاقية والذي يستند على مبدا التعاون والمروءة كاهم مقتضياتها ، اذن الى أي حد يلتزم المحكم الدولي في تطبيق مبدا التعاون والمروءة ؟ وماهي الحالات التي تستدعي وجوب تطبيق المبدئين في عقد البيع الدولي للبضائع؟ .ولعل هذا ما نستجليه من خلال تحديد دور المحكم الدولي في تطبيق المبدئين في مرحلة مخالفة تنفيذ العقد (المطلب الأول ) وأيضا دوره في حالة اختلال التوازن بين طرفي العقد (المطلب الثاني ).

Ad image

المطلب الأول: دور التحكيم الدولي في مخالفة تنفيذ عقد البيع الدولي للبضائع

الجدير بالذكر ان القواعد التي تحتويها اتفاقية عقد البيع الدولي للبضائع لا تشكل على مالها من اهمية لا تجحد نسقا قانونيا كاملا في البيوع الدولي ، اذ يقتصر نطاق تطبيقها على مسالتي تكوين عقد البيع وتنظيم حقوق والتزامات الاطراف فيه ومع ذلك فهي تحتل مكانة هامة في كونها من اينع ثمار التوحيد في هذا المجال بالنظر الى انها حاولت تحقيق قدر من التكافؤ بين التزامات كل من البائع والمشتري – اشراقة على المستقبل تبشر بثمار جديدة في مجال تحقيق التوازن في العلاقات الدولية الخاصة – خاصة في حالة اعسار احد الطرفين عن تنفيذ العقد وفي حالة ما عاقه عائق دون تنفيذ العقد ، فانطلاقا من المسحة الاخلاقية التي تميز قواعد الاتفاقية وما تقتضيه احكامها من حلول مترتبة على اعمال مقتضياها مع العدالة الاخلاقية خاصة فيما يخص بإقرارها لمبدا التعاون والمروءة كاهم سمتين تميز عقد البيع الدولي للبضائع فان المحكم الدولي يأخذ بالأحكام الواردة فيها ، لا بحسبانها قواعد قانونية مستوحاة من اتفاقية دولية وانما بحسبانها نماذج او “موديلات ” لحلول يراها عادلة وتحقق المغزى الاخلاقي ” لا ضرر ولا ضرار ” .

الفقرة الاولى: في حالة الاعسار

من المعلوم ان مبدا حسن النية في التعاقد يقوم مقام الروح في الجسد، فوجوده مفترض في مراحل التعاقد كافة بدءا من مرحلة المفاوضات مرورا بمرحلة تكوين العقد وتنفيذه وانتهاء بانحلاله، فطالما اتجهت الإرادة المشتركة للمتعاقدين على ابرام عقد بشروط واحوال معينة ، فينبغي على كل منهما الحرص على تنفيذه وفقا لما تم الاتفاق عليه وان يمتنعا عن ولوج ايسلوك او تصرف من شانه المساس بما يقتضيه امانة ونزاهة التعامل بطريقة لا تنسجم ومقتضيات هذا المبدأ ومن جملة ذلك اثبات الاعسار مما يستحيل معهالتنفيذ في الموعد المتفق عليه.   وفي هذا السياق تقضي المادة 71 من الاتفاقية: ” يجوز لكل من الطرفين ان يوفق تنفيذ التزاماته اذا تبين بعد انعقاد العقد ان الطرف الآخر سوف لا ينفذ جابنا هاما من التزاماته “.

أ – بسبب وقوع عجز خطير في قدرته على تنفيذ هذا الجانب من التزاماته، او بسبب اعساره ……”

اذن تبعا لمقتضى المادة 71 فان تنفيذ العقد يتعرض للعديد من الصعوبات والتوازن الاصلي له يختل نتيجة طروء احداث خارجة عن ارادة الطرفين اثناء مدة التنفيذ، دون ان تشكل هذه الاحداث حالة قوة قاهرة تجيز اعفاء المدين من تنفيذ التزاماته، فماذا يكون الحل؟

ففي اطار تفعيل مبدا التعاون والمروءة فالعديد من احكام التحكيم الدولية اعترفت بوجود عادة تجارية دولية قوامها الزام المتعاقدين بإعادة التفاوض بحسن نية  وذلك بهدف حماية التوازن بين الآداءات التي ينشئها العقد ، ومن هذا المنطلق نشير الى حكم تحكيم غرفة التجارة الدولية رقم 2540 حيث بلتزم تدعيما لمبدا التعاون وشرف التعامل والمروءة ان يبحث كل طرف في حالة اعساره والتي على اثرها تضطرب اقتصاديات العقد عن وسيلة يعيد بها التوازن المفقود وان ذلك يعد من مقتضيات واجب الامانة التعاقدية  التي تستلزم اعادة التفاوض حول المسائل التي اختل توازنها ابان مرحلة التنفيذ نتيجة عسر احد الطرفين .

لكن الذي تجب الاشارة اليه ان الالتزام بإعادة التفاوض ليس التزاما بتحقيق نتيجة وانما هو التزام ببذل عناية وتعاون هدفه محاولة معالجة الاختلالات التي اصابت الآداءات المتقابلة التي يسعى العقد الى انشائها بين اطرافه نتيجة الاعسار او اي احداث جديدة وقت التنفيذ لم تكن كائنة وقت انعقاد العقد.

الفقرة الثانية: في حالة الظروف الطارئة 
ان القوانين الوطنية تباينت تباينا واضحا في معالجتها لظاهرة الظروف الطارئة او الاضطراب في اقتصاديات العقد على اثر التغير في الظروف الاقتصادية له لاسيما في نطاق عقود البيع  وقد حاولت اتفاقية فيينا 1980 بشان البيع الدولي للبضائع مواجهة هذه المسالة فأبدعت مفهوما جديدا يمكن بمقتضاه مجابهة الاضطراب في اقتصاديات العقد على اثر التغير في الظروف او الظروف الطارئة التي تمنع احد الاطراف عن تنفيذ التزاماته على النحو المحدد ، هذا المفهوم الجديد حددت الاتفاقية كنهه تحت مصطلح  ” الاعفاء من المسؤولية ” في المادة 79 والذي يتشابه الى حد كبير مع مصطلح القوة القاهرة المستخدم في النظم القانونية اللاتينية للتعبير عن استحالة تنفيذ المدين لالتزاماته العقدية .فظاهر مقتضى المادة يبين بان واضعي الاتفاقية تحاشوا اللجوء الى استخدام احد المصطلحات المستخدمة في النظم القانونية  للتعبير عن اعفاء الطرف الذي يتخلف عن تنفيذ التزاماته من المسؤولية عن تعويض الضرر الذي يترتب على ذلك وغلق الطريق امام التفسيرات المستقرة بشان هذه المصطلحات ، ولنفسح الطريق في ذات الوقت امام المحاكم الوطنية والتحكيم الدولي على ما درج عليه العمل في التجارة الدولية بشان هذا الموضوع ، بشرط اعفاء المدين من المسؤولية عن تعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذه لالتزاماته وقوع حادث بعد ابرام العقد ينشا عنه عائق empêchement  يشكل عقبة تحول دون تنفيذه للالتزامات التعاقدية ويستوي ان يكون عدم التنفيذ كلي او جزئي وان تكون الالتزامات التزامات البائع او المشتري .

ولإعفاء المدين من المسؤولية عن تعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزاماته تستلزم المادة 79 توافر اربعة عناصر جوهرية:

  • أن يكون عائق يشكل عقبة تحول دون تنفيذ الالتزام
  • ان يكون العائق مما لا يمكن للمدين توقعه وقت ابرام العقد
  • ان يكون الحادث الذي نشا عنه العائق اجنبيا عن فعل المدين
  • ان يكون الحادث مما لا يمكن تجنبه او التغلب عليه

ويقع عبء الاثبات على الطرف الذي يتمسك بالإعفاء

ولعل مقتضى هذه المادة ما يقتضيه مبدا حسن النية وفيه تدعيم لمبدا التعاون والمروءة بإعفاء الطرف من المسؤولية وعدم تحميله بالتزام يثقل كاهله لذلك فان المحكم الدولي يسعى لتفعيل مقتضى هذه المادة وان كان الحكم الوارد فيها لم يسلم من النقد خاصة الفقرة الرابعة ، فهي لم توضح باي وسيلة اتصال يمكن ان يتم اخطار الطرف الآخر بوجود العائق وبمداه ، كما ان المدة المعقولة التي يجب ان يتم الاخطار خلالها تبدو هي الأخرى غير محددة بل الأكثر من ذلك فان الالتزام بالإخطار قد يكون مستحيلا في بعض الأحيان ويحتمل ان يكون هناك خطا في عملية استقبال الطرف الآخر للإخطار مما يفتح الباب امام احكام التحكيم في شان تحديدها .

المطلب الثاني: دور التحكيم الدولي في اختلال التوازن بين طرفي العقد

بالرجوع للفقرة الثانية من المادة 7 من الاتفاقية نجدها وضعت قاعدتين متتاليتين ذاتا مهمة تعاقبية

الأولى: وجوب مراعاة المبادئ التي اخدت بها الاتفاقية ولا شك ان من اهم هذه المبادئ وجوب مراعاة مبدأ حسن النية التوازن بين طرفي العقد

الأخرى في حالة عدم وجود هذه المبادئ لاسيما التعاون والمروءة فإن الاتفاقية قررت سريان أحكام القانون الواجب التطبيق وفقا لقواعد القانون الدولي الخاص ” قواعد العدالة التنازعية ” و ” العدالة المادية او الموضوعية ”

وغير خفي ان احكام التحكيم التجاري الدولي تعمل على اعمال قواعد الاتفاقية من منطلق انها ترتكز على مبدا حسن النية الذي بات معترفا به في جل الأنظمة القانونية الوطنية لتوافق مقتضياتها مع النظام الأخلاقي في حالة اختلال التوازن بين طرفي العقد لذلك ستناول مبدا حسن النية في الالتزامات التعاقدية والذي يشكل التعاون والمروءة اهم مقتضياتها ودور التحكيم في تطبيقها (الفقرة الأولى) ومبدا التعسف في استعمال الحق في الالتزامات التعاقدية (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى: مبدا حسن النية في الالتزامات التعاقدية
ان القوانين الحديثة تعطي لمبدا حسن النية معنيين مختلفين تجمعهما في المجال التعاقدي غاية واحدة هي تحقيق العدالة او التوازن بين الآداءات التعاقدية اولاها مفاده اقتصاد الأمانة في التصرفات القانونية سواء عند تكوينها او بمناسبة تنفيذها ويعبر عن ذلك الأستاذ Lyon gean gerard  بقوله ان هذا المعنى يحتم غياب القصد السيئ للأطراف  l absence d intention mal vaillante  ومن تم فهو حكم ارادي يقتضي في مرحلة تكوين العقد وجود التزام سابق على التعاقد بالإعلام لدى كل من المتعاقدين  une obligation précontractuelle de renseignement  فضلا عن التزامهما بالتفاوض بحسن نية وتجنب الغش والتدليس ، اما في مرحلة التنفيذ فان الحكم الوارد في المادة 184/1 من القانون المدني المصري وهي تكرس بوضوح اقتضاء تلك الأمانة في التصرفات القانونية …… يتبع

أستاذة لطيفة بوروضا 
باحثة في القانون