التعاون والمروءة في الوسائل البديلة في اتفاقية فيينا (2)


الأستاذة  لطيفة بوروضا

المبحث  الأول: التعاون والمروءة على ضوء اتفاقية فيينا :

ان الغرض الأسمى الذي تهدف اتفاقية الأمم المتحدة بشان عقود البيع الدولي للبضائع  الى تحقيقه هو توحيد القواعد التي تحكم البيوع الدولية ولا يخفى على احد ان التوحيد يؤدي الى نمو التجارة الدولية وانتعاشها ، وقد وضعت هذه الاتفاقية عددا من المبادئ العامة يسترشد بها المفسر قاضيا كان اومحكما اوفقيها عند تفسيره لنصوصها ، إذ اوجب ان يراعى في تفسير الاتفاقية المبادئ التالية :

  • صفتها الدولية : يفرض هذا المبد اعلى كل من يفسر نصوص الاتفاقية ان يضع في ذهنه انه لا يفسر قانونا وطنيا أصدرته هيئة تشريعية في دولة ما بل يفسر اتفاقية دولية اشتركت في صياغة نصوصها دول كثيرة واعدتها لكي تطبق في كل بلدان العالم بغض النظر عن اختلاف النظم القانونية او السياسية او الاقتصادية
  • ضرورة تحقيق التوحيد في تطبيقها :هذا المبدا يرتبط بالمبدأ الأول من مبادئ التفسير لان ضرورة تحقيق التوحيد في التطبيق هو نتيجة منطقية للصفة الدولية للاتفاقية فمراعاة الصفة الدولية يقتضي الا تفسر نصوصها بذات الطريقة والأسلوب الذي تفسر به نصوص التشريعات الوطنية وتوجب أن يراعى في تفسيرها تحقيق التوحيد في التطبيق.
  • ضمان احترام حسن النية في التجارة الدولية : نصت المادة 7/1 من الاتفاقية على انه يجب ان يراعى في تفسير هذه الاتفاقية ضمان احترام حسن النية في التجارة الدولية هذا الاحترام لا يتجاوز المعنى الأخلاقي لهذا المبدأ الذي يعني فيما يعني الأمانة ، الثقة المشروعة ، الإخلاص ……وشرف التعامل او المروءة والتعاون وحقيقة فاحترام حسن النية يجد مغزاه ومعناه الحقيقي في التعاون او مظاهر الالتزام بالتعاون (المطلب الأول ) وفي مبدا شرف التعامل او ما اصطلح عليه المروءة بكافة مظاهرها (المطلب الثاني) .

المطلب الأول: مظاهر الالتزام بمبدأ التعاون في عقد البيع الدولي للبضائع

Ad image

يعد الالتزام بالتعاون بين اطراف العقد احد ابرز مقتضيات مبدا حسن النية وينظر اليه الفقه على انه نابع من العلاقة التعاقدية ذاتها فضلا على انه مما تقضي به قواعد العدالة  ، لذا تكرسه العديد من نصوص الاتفاقية وتبدو الأهمية الواقعية له في العديد من البيوع البحرية لاسيما في البيع[ F.O.B حيث لا يلتزم البائع بإجراء التامين على البضاعة وتكون التزامات البائع والمشتري ترتكز أساسا على مبدا التعاون حيث يلتزم البائع في البيع فوب بإحضار البضاعة وفق مواصفاتها مع شهادة المطابقة وكذا مصاريف بقاء البضاعة على الرصيف في انتظار شحنها التي تبقى من التزامات المشتري الذي يهيئ السفينة لتكون تحت تصرف البائع مستعدة لشحن البضائع في الميعاد المتفق عليه وتوقيع عقد النقل لحسابه او على الأقل تحمل مصاريفه[ ولعل ابرز مظاهر الالتزام بالتعاون الذي تكرسه نصوص الاتفاقية نلمسها جليا في التزامات البائع (الفقرة الأولى ) والتزامات المشتري (الفقرة الثانية )

الفقرة الاولى: التزامـــــات البائـــــــــع

في اطار نطاق اتفافية فيينا لعقد البيع الدولي نجد البائع تكريسا لمبدا التعاون يتحمل مجموعة من الالتزامات التي تتسع وتضيق تبعا لصيغة الشروط المستخدمة في بنود الاتفاقية ، ففي الحكم الوارد في المادة 32/3 من الاتفاقية والتي يلزم البائع بالإدلاء بجميع البيانات المتوفرة لديه والتي تمكن المشتري من اجراء التامين على البضاعة وذلك في الفرض الذي لا يكون فيه البائع ملزما بإجراء التامين ، فالتبرير الأساسي لهذا الحكم يكمن في –اعتقادنا- في وجود التزام بالتعاون بين الأطراف هذا الالتزام يمليه مبدأ حسن النية .

ويمكن الإشارة أيضا الى الحكم الوارد في المادة 77 من الاتفاقية والتي تنص على “يجب على الطرف الذي يتمسك بمخالفة العقد ان يتخذ التدابير المعقولة والملائمة للتخفيف من الخسارة الناجمة عن المخالفة بما فيها الكسب الذي فات ، واذا اهمل القيام بذلك فاللطرف المخل ان يطالب بتخفيض التعويض بقدر الخسارة التي يمكن تجنبها “.

فهذه المادة تفرض بحق اقصى درجات الالتزام بالتعاون بين الأطراف ، اذ هي تلزم الطرف الذي لم يرتكب أية مخالفة بان يتخذ من التدابير المعقولة ما يحد به من آثار مخالفة الطرف الآخر لشروط العقد واكثر من ذلك فهي تجازي ذلك الطرف اذا لم يقم بهذا الواجب ، هذا الجزاء يتمثل في منح المدعى عليه الحق في طلب تخفيض التعويض بقدر الضرر الذي كان يمكن تجنبه وهذا الالتزام يطلق عليه “الالتزام بالحد من الخسائر “، اما عن نوع التدابير التي يتعين على ذلك الطرف القيام بها للحد من اضرار مخالفة الطرف الاخر لشروط العقد فمعيارها ” المعقولية والملائمة حسب ظروف الحال أي انها تحدد وفقا لمعيار الشخص السوي الادراك الذي يكون من نفس صفة الأطراف وفي ذات ظروفهم وواضح مدى المسحة الأخلاقية التي تقررها هذه المادة تدعيما لمبدا التعاون بين الأطراف ، اذ لا ينبغي للطرف الذي له الحق في التمسك بمخالفة الطرف الاخر لشروط العقد ان يقف مكتوف اليدين امام استشراء الضرر غير مكترث بذلك لعلمه بانه سينال ما يقابله من تعويض مهما عظم .فعلى حد تعبير الأستاذ محسن شفيق (……..انما تقضي الأمانة في التعامل والاعتبارات الاقتصادية العامة ان يذهب الى الحد من الضرر ، بل والى منعه ان استطاع ).

الفقرة الثانية: التزامـــــات المشتــــــــري

وفي نطاق الالتزام بالتعاون بين اطراف العقد يمكن الإشارة أيضا الى الحكم الوارد في م 43/1 من الاتفاقية والتي تلزم المشتري بان يخطر البائع باي حق ادعاء او ادعاء للغير على البضاعة محددا للبائع طبيعة هذا الحق او الادعاء في ميعاد معقول من اللحظة التي علم فيها بهذا الحق او الادعاء او كان من واجبه ان يعلم به والا فقد حقه في التمسك بأحكام المادة 41 و42 من الاتفاقية .

وغير خفي ان علة هذا الاخطار تكمن في ان مبدا حسن النية بما يمليه من التزام بالتعاون المتبادل بين الأطراف في سبيل الوصول الى الغاية المرجوة من العقد يستلزم وجود فسحة كافية من الوقت امام البائع كي يتمكن من دحض هذا الحق او الادعاء في الوقت الملائم ، نفس العلة هي التي اقتضت النص عليه المادة 43 حيث نصت على انه ” لا يجوز للبائع التمسك بأحكام الفقرة السابقة اذا كان يعلم بحق او ادعاء الغير وطبيعة هذا الحق او الادعاء “.

فالاتفاقية تريد تحقيق توازن دقيق في المركز القانوني لكل من الطرفين ، وهو امر منطقي يقتضيه مبدا التعاون كأحد ابرز مقتضيات مبدا حسن النية الذي تعتبره الاتفاقية أصلا من الأصول الذي تشيد عليه احكامها .

وعلى نفس من الفكر يمكن ان نشير الى الحكم الوارد في المادة 40 من الاتفاقية والتي تنص على ” ليس من حق البائع ان يتمسك بأحكام المدتين 38 و 39 اذا كان العيب في المطابقة يتعلق بأمور كان يعلم بها او كان لا يمكن ان يجهلها ولم يخبر بها المشتري ” فالاتفاقية بعد ان قررت في المادة 38/1 التزام المشتري بفحص البضاعة في اقرب ميعاد ممكن تسمح به

الظروفوعلة الزام المشتري بفحص البضاعة في اقرب ميعاد تسمح به الظروف هي حثه على اكتشاف العيب واعلام البائع واتخاذ موقف بشأنه– في حالة وجوده- في وقت قصير كيلا لا تبقى المراكز القانونية التي انشاها العقد قلقة لفترة طويلة ” .

فهذا الامر يفوت على البائع بمقتضى المادة 40 من الاتفاقية مكنة التمسك بإهمال المشتري في الفحص اذا كان السبب يتعلق بأمور كان يعلم بها البائع او كان لا يمكنه ان يجهلها ولم يخبرها المشتري ومفهوم المخالفة من ذلك هو ان الاتفاقية تفرض على البائع التزامات بالإعلام او بالإدلاء بالبيانات الخاصة بمطابقة البضاعة لشروط العقد من حيث نوعيتها وكميتها واوصافها وتغليفها وتعبئتها وطريقة حزمها او غير ذلك من الصفات التي يشتمل عليها العقد  ، هذا الالتزام الأخير من حيث الالتزام بالتعاون الذي يعد واحدا من ابرز مقتضيات حسن النية فالبائع الذي يستفيد من الحكم الوارد في المادتين 38 و39 هو البائع حسن النية الذي يبيع وهو يجهل وجود العيب او يعلم بوجوده ويكشفه للمشتري ، اما اذا كان سيئ النية فأخفى العيب مع علمه به فهو غير جدير بالرعاية  .

المطلب الثاني: مظاهر الالتزام بمبدأ المروءة في عقد البيع الدولي للبضائع

من بين المبادئ الهامة التي تنبع عن مبدا حسن النية بحسبانه احد الدعائم الأساسية التي تقوم عليها الاتفاقية الأمم المتحدة للبيع الدولي للبضائع نجدها تقرر مبدا التعاون والمروءة الذي يفضي الى شرف التعامل وتحقيق القاعدة الأخلاقية ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” وتتجلى مظاهر المبدأ بما يقرره من التزام على عاتق حائز البضاعة  – بائعا او مشتريا – بالمحافظة عليها لمصلحة الطرف الاخر ، هذا الالتزام يجد تبريره في كونه تطبيقا دقيقا لما يجب ان يسود المعاملات التجارية الدولية من امانة وإخلاص وحسن نية ، فضلا عن كونه يراعي الاعتبارات الاقتصادية العامة التي تابى ان يترك المال عرضة للتلف اوالهلاك ، لذلك بينت الاتفاقية تفاصيل هذا الالتزام وحدوده بالنسبة لكل من طرفي البيع وتقوم فلسفة الخطة التي اتبعتها الاتفاقية في هذا الخصوص على القاء عدد عبء المحافظة على البضاعة على الطرف الحائز لها سواء اكان هذا الطرف هو البائع وهذا ما سيكون موضوع الفقرة الأولى ام المشتري الفقرة الثانية

الفقرة الاولى: التزام البائع بالمحافظة على البضاعة

أقرت التزام البائع بالمحافظة على البضاعة تكريسا لمبدا شرف التعامل او المروءة المادة 85 من الاتفاقية وتفترض هذه المادة لتحميل البائع بهذا الالتزام امرا أساسيا، هو ان تكون البضاعة في حيازته المادية او تحت تصرفه وهي تكون كذلك في عدة حالات:

  • إذا تأخر المشتري عن استلامها في الوقت المحدد
  • اذا لم يدفع المشتري ثمن البضاعة في الوقت الذي يكون فيه الدفع والتسليم شرطين متلازمين

ومعيار تنفيذ البائع لهذا الالتزام هو من ناحية أولى –التناسب الذي يعني وجوب اتخاذ الإجراءات الضرورية فقط- بغية المحافظة على البضاعة حسب نوعها وطبيعتها لا افراط ولا تفريط ، ومن ناحية أخرى المعقولية التي تحتم ان يتطابق سلوك البائع في تنفيذه لهذا الالتزام مع ما يقتضيه شرف التعامل والمروءة وما كان سيفعله شخص سوي الادراك من نفس صفته وفي نفس ظروفه ، اذ لم تحدد الاتفاقية ماهية الإجراءات المناسبة التي يتعين على البائع اتخاذها في سبيل تنفيذه لهذا الالتزام ومع ذلك أعطت المادة 88 من الاتفاقية مثلا لما يمكن ان يعتبر إجراءا مناسبا ومعقولا في بعض الأحيان لتنفيذ البائع لالتزامه بالمحافظة على البضاعة بان قررت إمكانية ان يبيع البائع البضاعة بجميع الطرق المناسبة اذا تأخر الطرف الآخر بصورة غير معقولة عن حيازة البضاعة اوعن استردادها او عن دفع الثمن او مصاريف حفظها بشرط ان يوجه الى الطرف الآخر اخطارا بشروط معقولة بعزمه على اجراء البيع واذا كانت علة تحميل البائع بالالتزام بالمحافظة على البضاعة تنبع عن مبدا حسن النية وتكريسا لمبدا المروءة كأحد مقتضياتها وكان هذا المبدأ يحتم على البائع اخطار المشتري سلفا بانه سينوب عنه في القيام بكل الإجراءات المناسبة للمحافظة على البضاعة ، لا سيما اذا تمثل هذا الاجراء في بيعها ، فان هذا المبدأ يتدخل مرة ثانية ليعفي البائع من عمل هذا الاخطار اذا كانت البضاعة عرضة للتلف السريع او كان حفظها ينطوي على مصاريف غير معقولة يبدو معها من الأنسب بيعها مباشرة دون انتظار عمل الاخطار السابق على اتخاذ الاجراء ، وفي جميع الأحوال يحق للبائع استرداد كامل المبالغ التي صرفها في سبيل المحافظة على البضاعة اذا اقتنع القاضي او المحكم بمعقوليتها .وبديهي التأكيد على ان تقويم هذا المعيار في شقيه ” التناسب والمعقولية ”  يخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع او المحكم المعروض عليه النزاع ، واذا لم يقم البائع بهذا الالتزام جاز للمشتري بحسبانه الطرف المتضرر اللجوء الى القضاء او الى التحكيم بحسب الاتفاق على اللجوء اليه وطلب انزال الجزاءات المناسبة الواردة في الاتفاقية ضد البائع بحسب ما اذا كانت مخالفة البائع لهذا الالتزام تشكل مخالفة جوهرية ام لا .

الفقرة الثانية : التزام المشتري بالمحافظة على البضاعة

قد تكون البضاعة في حيازة المشتري ولكنه أراد رفضها لسبب مبرر تجيزه بنود العقود او نصوص الاتفاقية كعدم مطابقة البضاعة الذي يتيح له حق اعلان فسخ العقد او طلب استبدال البضاعة ، فاذا استعمل أيا من هذين الحقين صار حائزا لها الى حين اعادتها الى البائع ، لهذا وتمشيا مع الخطة التي اسستها الاتفاقية في هذا الخصوص وتأسيسا على مبدا المروءة فان الاتفاقية الزمت المشتري بان يتخذ كل التدابير المعقولة والمناسبة للمحافظة عليها لحين ان يتمكن البائع من استعادتها مرة ثانية ويتولى المحافظة عليها بنفس او بواسطة تابعيه وفقا للتفصيل السالف ذكره فيما يتعلق بالتزام البائع المحافظة على البضاعة فاذا نفذ المشتري التزامه بالمحافظة على احسن وجه ولم يسدد له البائع المصاريف المعقولة التي انفقت لهذا الغرض فان للمشتري الحق بمقتضى المادة 76/1 في حبس البضاعة لحين ان يقوم البائع بهذا التسديد واكثر مما تقدم يلتزم المشتري وفقا للحكم الوارد في المادة 86/3 من الاتفاقية بالمحافظة على البضاعة وفقا للتفصيل السالف حتى في الفرض الذي لا تكون فيه البضاعة في الحيازة الفعلية له ، اذ يلتزم باتخاذ كل الإجراءات المعقولة والمناسبة للمحافظة على البضاعة في الفرض الذي توضع في فيه البضاعة تحت تصرفه في مكان الوصول على الرغم من انه يزمع رفضها لسبب ما تجيزه الاتفاقية او بنود العقد ويبرر هذا الالتزام بان مقتضيات المروءة وشرف التعامل من منطلق مبدا حسن النية في المعاملات التجارية تأبى ان تبقى البضاعة مهملة في مكان الوصول دون ان يكون هناك من يحافظ عليها وتعطي المادة المشتري الحق في حبس البضاعة لحين وفاء البائع بالمصاريف المعقولة التي انفقت في سبيل المحافظة على البضاعة .ومع ذلك وتطبيقا لمقتضيات مبدا حسن التعاون والمروءة التي تنبع منها قاعدة ” لا ضرر ولا ضرار ” فإنه توجد ثلاث حالات يحق فيها للمشتري الامتناع عن حيازة البضاعة بغية المحافظة عليها لحساب البائع ونصت على هذه الحالات الثلاث المادة 86/3 من الاتفاقية:

    • إذا كان البائع حاضرا في مكان وصول البضاعة او كان في هذا المكان شخص ينوب عنه في حيازتها
    • إذا كان تسليم البضاعة للمشتري مشروطا بدفع الثمن
    • إذا كانت حيازة البضاعة بواسطة المشتري تسبب له مضايقات او ان تؤدي حيازته لهذه البضاعة الى تحميله في سبيل المحافظة عليها بنفقات غير معقولة وبالتأكيد فانه يجمع بين هذه الحالات رباط واحد قوامه مراعاة التوازن بين الأطراف فلا يجوز تحميل أحد اطراف العقد بالتزام يثقل كاهله دون ان يراعي موقف ووضع الطرف الآخر، وهذا ما يقتضيه مبدا التعاون والمروءة.

 

    • يتبع في العدد القادم

 

    ذ. لطيفة بروضا باحثة قانونية