محاكمة قصة قصيرة ل زهرة عز

قالت الروح: أنا الخير والطيبة في كل واحد من البشر، أنا القرين.

قالت المحكمة: أنا بالمرصاد للشر في بني البشر

قال المجتمع: أنا غابة، والبقاء للأقوى

قال الحلم: البقاء للأصلح، والأصلح هو الحب

Ad image

قال المجرم: أنا ضحية قانون الغاب.

وقالت الروح والمحكمة، وقال المجتمع والحلم والمجرم بصوت مرتفع: سينتصر الحب ولو بعد حين.

حيثيات القضية:

هوت مطرقة العدل بقوة على طاولة المحكمة. فتحت الجلسة. ينادى على المتهم الأول، وحيد بن عبد الله. تصفحت القاضية، رئيسة الجلسة الملف رقم 75/16، ملف متشعب، وجاهز للحكم، الإدانة واضحة، وأدوات الجريمة متحفظ عليها، من الجرائم التي يبث فيها بسرعة. جميع أركان الجريمة متوفرة، واعترافات المتهم واضحة ودقيقة لدرجة أذهلت القاضية. لم يراوغ أمام قاضي التحقيق. اعترف بالمنسوب إليه، وكأنه كان يستعجل سجنه. التهمة: المتاجرة بالمخدرات الصلبة، وحيازة أقراص القرقوبي، ومحاولة اغتصاب تحت التهديد بالسلاح.

_ وحيد بن عبد الله، ليدخل.

كان وحيد يجتر سنواته 30. تقدم بخطى متثاقلة. يحيط به اثنان من رجال الأمن. موثق اليدين وبنظراته فراغ كبير. كان شعر لحيته أشعث، كما شعر رأسه. حاد النظرات، زاد من قساوتها حاجبان كثيفان، على شكل قوس هرقل. نظراته  كصقر، مستعد للانقضاض على فريسته. كل نزلاء السجن يخشون بطشه وبرودة أعصابه.

وقف بمواجهة القضاة، ورفع عينيه غير مكترث بالمكان. استقرت نظراته على الطاولة التي يجلسون إليها. تسمّرت فجأة عيناه وزاد اتساعهما. وقف مشدوها ينظر إليها. يتأمل جمالها الفتان وهي ببدلتها السوداء المرصوفة بلون الربيع. كانت مثل حورية من السماء. شعرها المنسدل باحترام يحيط بوجه ملائكي بنظارات طبية لا تخفي بتاتا جمال عينيها اللوزيتين. لم يسمع ما يقال له، من أنت؟ وحيد بن عبد الله؟

لا يعرف من هو . لم يعرف أبدا من هو، وهو اليوم أمامها أكثر ضياعا وحيرة .

التقت نظراتهما للحظة. نظرت إليه بدهشة وحسرة، وبدمعة أطلّت  من عينيها الجميلتين، وجمت رئيسة الجلسة. كأن على رأسها الطير، بينما ابتلع وحيد لسانه، وفي عروقه نار الخجل تشتعل. رفعت القاضية يدها، مررت بها على رأسها، ربما لتستجمع قوتها، وتعيد رباطة جأشها. نظر هو للاسم المكتوب بخط عريض على الطاولة، نادية العرعوري. قرأه بروح متعبة. تحركت الأرض تحت قدميه، وهوى على الأرض مغشيا عليه.

كان هناك بسرير مستشفى تابع للسجن، بين اليقظة والصحو، غائبا عن الوعي وما يحيط به. وصله صوت الطبيب بعيدا. اخترق حدود سمعه، تعرض لصدمة قوية، مع إدمانه السابق للمخدرات وتوقفه المفاجئ عن أخذها دون مرافقة طبية، حالته حرجة، قد يمكث أياما قبل أن يستعيد وعيه، دقات قلبه تتسارع بشدة. فجأة، صرخ الطبيب:

_ إن نبضه يضعف.

ثم  توقفت آلة رسم القلب معلنة وفاته المفاجئ.

كان الطبيب يسعى لإسعافه جاهدا وبَثّ الحياة في قلبه. يضرب بقبضته في انتظار وصول الآلة المتخصصة لصعقه بالكهرباء. إنه اليوم الأول للطبيب جمال بمستوصف السجن، ولا يريد أن يموت أحدهم في يوم استلامه للوظيفة. ستكون نقطة سوداء ترافقه طول حياته، قد تعيق مسيرته المهنية، لذلك كان متحمسا لانقاد وحيد.

اقترب وحيد من نادية وهي تمسك يده ودموعها تغسل وجهها، تناديه بصوت عال غير آبهة بنظرات الاستغراب من الدكتور جمال والممرضين حولها. زاد اهتمام الطبيب بإنقاذ وحيد عندما صرحت أن أمره يهمها، ولا تريده أن يموت وهو لم يعش الحياة بعد.

كانت روح وحيد تطوف حولها، حتى أنها أدخلت أناملها بين خصلات شعرها، ومررت سبابتها فوق شفاهها الوردية، تم غادرت الغرفة. استنشقت نسائم الحرية وهي تخترق جدران السجن العالية.

اقتربت الروح من نقطة البداية، هناك حيث عثر على وحيد ذات فجر قرب القمامة، وقطة تائهة مثله تنوء حزنا، حتى أيقظت النائمين. انتقلت الروح لأطلال كانت يوما حضنا لوحيد، رغم برودة جدرانها، ورأته هناك بين أطفالٍ، يعدو ويضحك وغالبا ما كان يبكي غلاظة المربين وقساوة قلوبهم، ورأته  باكيا، غاضبا بعدما أتم الثامن عشر ربيعا، مع مجموعة من إخوته بالخيرية. يحتجّ لقرار طردهم، أصبحوا راشدين والدار التي آوتهم ستهدم.

انتقلت الروح للحديقة التي لطالما تنقل وحيد بين أشجارها، تائها، والحزن يلبسه. رأته واقفا يستند إلى جدار أصم لحائط الحديقة، وسط المدينة العتيقة يتطلع يتوهان في كل الاتجاهات، باحثا عن الطريق الذي يسلكه بعد أن أمضى ليلة أخرى من ليالي العراء، يفترش الثرى ويلتحف السماء. قلبه قُدّٓ من القلق والتوجس بعدما تاهت أيامه، وتلاشت عافيته، ولولا صغر سنه لكانت كل الأمراض تنخر جسده  من برد الليالي وصقيع المشاعر.

ككل ليلة منذ ما يزيد عن سنة، رأته متوجها للحديقة. يبحث عن أقصى كرسي. يضع حقيبته الصغيرة السوداء تحت رأسه، ويبدأ في عَدّ همومه والنجوم. يتحايل على النوم لربما حضر ليداعب جفنيه المثقلين بالحزن. يمرّ شريط حياته القصير بسنواته، الطويل بمآسيه أمام عينيه، وحين تبدأ خيوط الفجر تتسلل إلى المكان،  يسمع مواء قطة تقترب منه طلبا للدفء من صباح صقيعي. يفسح لها مكانا، لا تتردد. تقفز إلى حضنه. يستأنس بها حدّ الوجع وهو يعيد ذكرى حكاية روتها له مديرة الخيرية التي آوته.

وجده عابر سبيل ذات فجر ثقيل، وهو متوجه للمسجد، بعدما تتبع مواء قطة حزينة.  كانت هناك تحرسه. ولولا دفء القطة تلك الليلة لكان الآن عصفورا في الجنة. لم يعرف أبدا هل يحقد على القطط، لأنها حرمته من التحليق في الجنة، أم يشكرها لأنها منحته الحق في الحياة تلك الليلة دفئا وعطفا، بعدما تنكّرت له الأمومة.

توقفت الروح عند الكرسي الصلب الذي كان ينام عليه، مفترشا السماء وهو يعدّ النجوم وهمومه. رأته وحيدا بعتمة الليل. يفتح عينيه ليطمئن لأنفاس ونسيته. قطة كانت تحتمي به من برد الليالي. يرنو إليها ويغفو، وهي تضع رأسها فوق صدره وتنام. كانا يستأنسان ببعض ويدفئان بعض.

ليالي وحيد مظلمة بدون قمر بعد أن توارى خلف سحب من حزنه. سمعته يحكي بتذمر عن خيبته للقطة الشريدة. كان يرى أمله في النجاح، وقد تحول إلى هباء كنسته رياح اليأس. كان يبوح وهو يقلّب أحلامه بين يديه، ربما عثر على حلم يطرد به الرياح التي تعوي في عمقه السحيق، وتبدد كل السحب التي تحجب عنه النور. أطرقت الروح واجمة وهي تقرأ كتاب آلام وحيد. قفزت القطة من فوق الكرسي. جاءت أيضا لتستأنس برائحة الغائب، ثم ماءت بصوت حزين وهي ترفع يدها، وتبعث للروح قبلة طائرة. ردّت في كلاهما الروح.

غادرت الروح حديقة المآسي، وحلّقت إلى الشارع  الذي كان يغوص بالراجلين من كل الأعمار، ذات صدمة، كل يجري إلى وجهته، ورَأت وحيد هناك، يمشي الهوينا. يفكر في حل لمشكلته. لقد مرّ على هجرانه حجرة الدراسة سنوات، لم يجتز امتحان الباكالوريا بعد طرده من الخيرية، ولم يلتحق بكلية الحقوق كما خَطط يوما ذات أمل.

كانت الروح تتنقل من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. رأته ماسحا للأحذية. يتجرع الإهانات في صمت، وكنادل بالمقاهي على شاطئ البحر، ثم رأته وهو يتمشى متعبا وقد ابتلع نصف الشمس. عند الغروب، يفكّر أن يقطع البحر جريا، ربما تذيب مياهه ملوحة غصته ومرارته وقد تطفئ نار الغضب واليأس المتأججة بداخله، ثم رأته الروح حائرا بعد أن عرض عليه أحدهم الاشتغال  ببيع المخدرات، تردد قليلا، ووافق على عرض البارون. أصبحت له شقة صغيرة خاصة، وسيارة أيضا. أصبح همه الاغتناء و تكديس الأموال حتى يشتري لنفسه اسما ووضعية داخل البلد. رأته يوما وهو يسرع الخطى باتجاه فندق راق بوسط المدينة. موعده مع زبون وازن. صفقة من المخدرات الصلبة قد تنقله نقلة نوعية ويصبح من الأغنياء.

كان متحمسا جدا للقاء لدرجة أنه اصطدم بامرأة حتى أسقطت حقيبتها. رفع رأسه، وكانت هي، حبيبة قلبه ورفيقة درسه نادية. تتأبط شابا وسيما وبطنها يعلن عن بشرى سارة قريبة. قرأت الروح صدمته وهو ينظر لنادية بتساؤل وانكسار، فيما نطقت عيناها  حسرة وألما. في تلك اللحظة، رأت الروح حلم وحيد بالاغتناء وقد أنبت أجنحة وطار بعقله. أدار ظهره، غيّر طريقه، وأطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء. كان هناك بغرفته، وقد أطبقت جدرانها عليه حزينا، وحيدا، يائسا، وكانت هذه بداية تعاطيه للمخدرات، جرعته الأولى، ثم الثانية وضاعفها في الأيام  التالية حتى أدمنها

استنشق كل مدخراته وسيارته وأثاثه. رأته الروح ثانية، وقد أصبح مشرّدا من جديد. يفترش الثرى ويلتحف السماء، دون أن يستطيع نسيان نادية ومحوها من ذاكرته. كان اسمها محفورا في عمق لم يستطع انتشاله منه أبدا. أصبح همه  اليومي الحصول على جرعته، ثم انتقل للقرقوبي، ليعوض به نقص المال في اقتناء الكوكايين والهيروين. أصبح يتصيد زبائنه من أمام أبواب الجامعات. كان حاقدا على نفسه وغيره. علق على مشجب الجميع فشله وخيبته وإدمانه.

في يوم  ماطر، رأته الروح وهو يحتمي بجدار باب لمدرسة عليا. يتصيد طلبة يرغبون بالمغامرة بمستقبلهم وحياتهم. لاحت له فتاة بشعرها الأسود وعينيها البلورتين. رأى نادية عندما كانت تجلس إلى جانبه بطاولة القسم. توجه إليها وكان مفعول القرقوبي قد أتى أكله. شدها من يدها معاتبا. صرخت الفتاة. أشهر في وجهها سكينا من الحجم المتوسط. اختلط الحابل بالنابل، واشتد حوله الطوق. أفلت الفتاة بعد أن وضع قبلة على شفتيها غصبا، ثم بدأ بضرب ساعديه بالسكين وقد فقد عقله وهو في هستيرية تامة، أسرع أمن الكلية.  سيطروا علىى الوحش وسلموه للبوليس.

رجع  إلى السجن للمرة  الثانية. تأوّهت الروح وهي تتابع شريط حياة وحيد، حتى امتطت غيوما وأدمعت حسرة.

نهاية القصة حسب السارد:

– وحيد، لا تذهب أرجوك، سأساعدك، وأكفر عن ذنب ليس لنا دخل فيه. ستعالج من الإدمان. تدرس بالسجن وتكون محاميا كما كنت تحلم. لا تتركني. أنا كلّ عائلتك. لا ترحل.

كانت نادية تصرخ ودموعها تغسل يد وحيد. أحست الروح وهي تحوم حول السجن بجاذبية قوية، تشدها لغرفة وحيد. لم تفتح لها السماء بابها النوري. نظرت إلى الغائب بعيون باكية، ووعدته أن تساعده أيضا إذا كان في عمره بقية.

– النبض يعود.

صرخ الدكتور جمال مزهوا بمجهوداته.

_ لقد انتظم الآن، الحمد لله، هذا المريض بسبعة أرواح. ربما رضع يوما من ثدي قطة؟؟ هههه.

ولم يكن يدري أنه ما نطق عن الهوى، ذات إهمال، وتنكر للأمومة، أرضعته قطة تائهة حنانا وعطفا.

فتح وحيد عينيه ببطء. طالعه وجه باكٍ. نادية متورمة العينين، وأكثر جمالا بتلهفها عليه. وجم للحظة، ثم بكى قسوة القدر. كان ألم  وحيد كبيرا، وهو يقرأ في عيني نادية الحسرة والحيرة. فأمسك بتلابيب كلماته داخل حنجرته. أحكم تكبيلها وتوثيقها بحباله الصوتية  مانعا إياها من الانطلاق.

أوجاعه تختفي وجراحه تلتئم. تبدّد إحساسه بالجوع، وعاش للحظة تخمة الاهتمام والحنان. لقد ولد في شقوق القسوة فجرٌ. أسدل جفونه على طيف نادية وصوتها يعده بزيارة ثانية وستعرفه على وحيد الصغير. ابتسم مطمئنا وشعاعٌ من نور يخترق عتمة حياته. عانق الضوء وغفا.

نهاية القصة بعد تدخل الكاتبة:

ولأن المجتمع فقد قلبه، وصارت الأمنيات وليمة يقتات عليها اليأس في زمن الاسمنت، فقد أعيد وحيد بعد أن تعافى إلى قاعة المحكمة، وقضي في حقه بالسجن عشر سنوات، ولم تكن نادية سوى حلماً رواد وحيد الذي ما يزال قابعاً بين جدران سجن عين قادوس بفاس.
الدكتورة : زهرة عز