لم يخرج خطاب العرش ليوم 29 يوليوز 2017 عن هذه القاعدة؛ لكنه تميز عن الخطابات الملكية الأخرى بما قبله، لذلك فهو خطاب له ما بعده.
ودعونا نقول، وبالواقعية نفسها والصراحة ذاتها، إن العديد من المراقبين توقعوا أن يتمحور خطاب العرش لسنة 2017 حول ملف الحسيمة فقط، بمطالبه الاجتماعية والاقتصادية وبمعتقليه… لكن الخطاب ذهب أبعد من ذلك، وتناول بالتحليل العميق وبلغة يفهما القاصي والداني مُختلف الأعطاب التي تساعد في تعميق الأزمات وانزلاق الأوضاع وعرقلة البرامج التنموية؛ لأن ما وقع بالحسيمة يُمكن أن يقع بخريبكة أو أكادير أو فاس أو غيرها، فلا فرق في خدمة المواطن في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب.
خطاب العرش لسنة 2017 وضع أصبعه على مكامن الجُرح، وأن المغرب يسير بسرعتيْن مختلفتيْن، تتجلى في مصداقية المغرب قاريا ودوليا وبثقة كبار المستثمرين من جهة، وتواضع الإنجازات الاجتماعية من جهة ثانية.
سرعتان مختلفتان بين نجاح مُخططات قطاعية في الفلاحة والصناعة والطاقة المتجددة وبرامج تنموية لا تُشرف وتدعو إلى الخجل.
سرعتان مختلفتان في التسيير بين قطاع خاص بأفضل الأطر وقوي ومنتج للثروة وفرص العمل، وبين قطاع عام بكفاءة إدارية أقل وتنقصه الحكامة والنجاعة وغياب طموح الارتقاء الاجتماعي.
مفهوم السرعتيْن المختلفتيْن سيمتد إلى إشكالية عقليات التسيير الإداري التي لا تريد التغيير من جهة وعقليات التسيير الحزبي والسياسي البعيدة عن الإنصات لانشغالات المواطنين والالتهاء بالصراعات الداخلية… عقليات إدارية وحزبية / سياسية، يمكنها تفضيل مصالحها الشخصية والحزبية على خدمة المواطن، لتجازف بالوطن دون حُمْرة الخجل وبدون ضمير، عقليات تلهت وراء المكاسب والمناصب والواجهة الإعلامية فقط؛ وهو ما أسهم في عزوف الشباب خاصة عن العمل السياسي والحزبي، وغابتْ ثقة الشباب في بعض الطبقة السياسية لأن بعض الفاعلين أفسدوها.
وهو ما جعل المواطن يلجأ إلى ملك البلاد من أجل التظلم من تماطل الإدارات ويطلبون منه التدخل لحل مشاكلهم… وفي الوقت نفسه يختبئ السياسيين وراء القصر وإرجاع كل الأمور إليه.
كفى… إنها مرحلة جديدة
لقد حدد خطاب العرش سنة 2017 معالم السقف، وأن الوضع لا يُمكنه أن يستمر ما دام أن الأمر يتعلق بالمواطن والوطن.
وهُنا يلتحم الملك بالشعب في الإفصاح بعدم الثقة في بعض السياسيين وعدم الاقتناع بطريقة ممارستهم للسياسة، وكذا التساؤل عن جدوى وجود مؤسسات وإجراء انتخابات وتعيين حكومة وولاة وسفراء وقناصلة لا ينصتون لهموم الشعب.
ولأن استقرار البلاد وصيانة حقوق المواطن وحرياته هي من المهام الدستورية للملك حسب دستور 2011 في الفصلين الـ41 والـ42، فقد جعل الأمر بين خياريْن؛ فإما القيام بالواجب كاملا أو الانسحاب، ومطالبا بالتطبيق الصارم للقانون والدستور، خاصة مبدأ ربط المحاسبة بالمسؤولية؛ لأن المغرب فوق الجميع، فوق الأحزاب والمناصب ولا مجال للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب.
قوة الخطاب ستجعل من عرقلة أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي لحسابات شخصية، بمثابة خيانة لأن فيها إضرارا بمصالح وحقوق المواطنين كما تتضمن تغييبا للوطن.
لقد ألح خطاب العرش 2017 على التفعيل الكامل والسليم للدستور؛ لأن كل هذه الأعطاب هي مسؤولية جماعية، حكومة وبرلمانا وأحزابا وكافة المؤسسات.
وهُنا، يجب الإلحاح أكثر على التطبيق السليم للفصل الـ7 من الدستور والخاص بتحديد اختصاصات الأحزاب السياسية المغربية بمسؤولية تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي وانخراطهم في الحياة العامة والمشاركة في ممارسة السلطة بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
فأين الأحزاب المغربية من دورها الدستوري؟ وماذا عن خريطة وجود فروعها ومقراتها بمختلف مدن المملكة ومن ضمنها الحسيمة؟ وما دور شبيباتها الحزبية في تجديد وتشبيب النخب السياسية؟ وأين اختفت أدرعها النقابية؟ وهل يقتصر دورها فقط على تنشيط الحملات الانتخابية بشعارات وببرامج مستهلكة؟
إن التراجع الخطير في دور الأحزاب والفراغ الكبير على مستوى الحضور بجانب الساكنة فيه ضرب لنص الفصل الـ7 من دستور 2011.
وكعادته وفي كل خطاب ملكي وبلغة التفاؤل والواقعية، فقد تضمن بعض الحلول للخروج من عنق الزجاجة؛ أولها تغيير العقليات، وثانيها توفر الإدارة على أفضل الأطر، وثالثها نخب سياسية مؤهلة، ورابعها هو روح المسؤولية والالتزام الوطني.
وليختم الخطاب بتجديد العهد مع الشعب لمواصلة العمل الصادق والتجاوب مع مطالبه وتحقيق متطلباته.
والأكيد أن المقبل من الأيام ستعرف معالم جديدة لمرحلة جديدة لما بعد خطاب العرش لسنة 2017؛ لأن قوة مضمونه وواقعية خطابه وحلوله تُفيد بأنه خطاب له ما بعده.
دكتور عبد الله بوصوف