بقلم : الصحفي سعيد رحيم
عاب الشاعر حسن نجمي على الصحفي والمدير العام السابق لشركة “سابريس” محمد برادة نظرته المتشائمة لواقع حال الصحافة وآفاقها في المغرب، خصوصا منها الصحافة الورقية، داعيا إياه إلى التحلي بالتفاؤل، من موقعه كقيادي للعمل الصحافي لعقود بالبلاد.

وكان برادة، الذي حلّ ضيفا على ملتقى وكالة المغرب العربي للأنباء يوم الثلاثاء 12 نونبر 2019، قد قدم عرضا كرونولوجيا وتحليليا دقيقا لمسارات الصحافة الوطنية، منذ نشأتها في المغرب، مرورا بكل الإكراهات والتحديات، التي مرت منها، بما فيها تحديات زمن الرصاص بمعناه المادي الوظيفي وبمعناه السياسي والأيديولوجي.

والحقيقة أن النظرة التشاؤمية للصحفي والمدير العام السابق ل”سابريس”، الذي عايش وخبر جسديا وروحيا، تقريبا، كل تحولات عصر الصحافة في المغرب، لها ما يبررها، كما عبر هو عن ذلك بنفسه.

لكن، ودون الحاجة إلى العودة لتفاصيل العرض، الذي قدمه سي محمد برادة، تحت عنوان “أي نموذج اقتصادي للصحافة اليوم.. هل ستختفي الصحافة الورقية”، فإن هذا العنوان وحده كافي لكي يدلّنا على حجم الكارثة التي تتخبط فيها الصحافة المغربية، طولا وعرضا، هذه الأيام.

Ad image

ذلك، أن قراءة متأنية لهذا العنوان، تكشف لنا طبيعة العقلية التي تواكب وتنظر وتخطط للحقل الصحفي في البلاد. وهي العقلية التي لا يمكن وصفها بأقل من كونها عقلية ميركانتيلية (تجارية)، مما جعل العنوان يؤطر التصور العام لجل الفاعلين الإعلاميين والصحفيين الذين حضروا بكثافة هذا الملتقى، بمقر وكالة المغرب العربي للأنباء. أو كما يقول المصريون:”الموضوع من عنوانو”. إنه يستقطب ويسيل لعاب الراغبين  في ركوب “صحوة” جديدة للإعلام والاتصال في المغرب، لكنها صحوة الدعم الأعرج.

إننا لا نختلف حول حيوية العنصر الاقتصادي، أي (المال)، لتنشيط وتدوير الآلة الإعلامية، لكنه لا يكفي لخلق الأسس المتينة لقيام صحافة مهنية تقوم بأدوارها المنوطة بها، باستقلالية عن لوبيات الضغط المالي والسياسي، التي أفسدت وخربت العمل المهني في الصحافة، بكل ألوانها وأشكالها، في العالم، وفي المغرب أساسا.

لذلك، يمكن القول؛ أن العنوان/ الإشكالية/ المعادلة، التي تناولها العرض في هذا الملتقى؛ هي معدلة عرجاء، تمشي على رجل واحدة بدل رجلين. لقد كان حريٌّ بالملهمين(les inspirateurs )  لهذا العنوان أن يضيفوا إليه وبكل بساطة وأناة، كلمة مهنية أو أخلاقية، ليصير العنوان كالتالي:” أي نموذج اقتصادي ومهني لصحافة اليوم…”، حتى تتضح للجميع المنطلقات وتتضح لنا الصورة اللّبقة للوظيفة الإعلامية، التي ليست بالضرورة هي الوظيفة التجارية، كما يوحي بذلك البحث عن النموذج الاقتصادي المجرد.

إن الوقوف عند النموذج الاقتصادي للصحافة وحده لا يختلف في مضمونه وفي أبعاده عن النموذج السياسي للصحافة. وكلاهما آفة ومقبرة للصحافة إلم يكن نموذجا مقرونا عضويا بالنموذج المهني والأخلاقي، الذي هو (القائد/ رب العمل في العملية الإعلامية إنه ” le patron”). ) وإلا على النموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية أن يحولها إلى مقاولة تجارية أو إلى وكالة إشهارية. وعلى النموذج السياسي أن يحوّل المقاولة الإعلامية إلى حزب أو منظمة سياسية. وهذا ما نعيشه فعليا اليوم وما يشكل مصدر قلق وتشاؤم سيكولوجي، عبر عنه صراحة القائد الإعلامي محمد برادة.

إن المعضلة التي يعيشها الإعلام والصحافة والاتصال اليوم في المغرب  ليست مرتبطة بالاقتصاد وكفى، بل مرتبطة وبشكل رئيسي بفضاءات ممارسة المهنة وبأخلاقياتها؛ نظريا وميدانيا.

لقد نادينا، كمهنيين، منذ تسعينيات القرن الماضي، بضرورة دخول الرأسمال إلى علم الصحافة، من أجل النهوض بها ولتخليصها بشكل ضمني سلس من لوبيات الضغط السياسي، لكن عندما استجاب ودخل الرأسمال خرجت الصحافة. واتضح فيما بعد أن المشكلة تكمن أساسا؛ في عدم قدرتنا -آنذاك – على تحديد طبيعة هذا الرأسمال؟! وطني أم محض تجاري ربحي؟

في عرضه “المتشائم”؛ تحدت برادة عن تجربته في شركة “سابريس”، وقال بالحرف الواحد:” إنها لم تكن تحمل من الشركة سوى الاسم”، مضيفا أنها “كانت تعاونية في الواقع .. مجلسها الإداري كان مكونا من شخصيات وطنية لم يكن هدفها هو الربح”. بل مساعدة الناشرين على إيصال جرائدهم إلى أوسع شرائح الشعب المغربي وإلى أبعد نقطة ممكن الوصول إليها في المغرب. ولو على ظهر الدواب..وفي الأسواق..

ومع بعض التحفظات في الجانب السياسي لصحافة زمن الرصاص، فهذا هو النموذج الاقتصادي أو الرأسمال، الذي لم تكن لنا القدرة، آنذاك، لكي نقيسه بالعين. ففُتح الباب على مصراعيه للرأسمال “المجهول”، حتى أصبحت الصحفية والصحفي المهني يقاس بمردوديته التجارية وليس بمردوديته قيمته المهنية وبقيّمه الأخلاقية. مما جعل الصحفي يلهت وراء “البوز” التجاري، وهو يعيش البؤس المهني والأخلاقي، فاندحر مفهوم “السلطة الرابعة”، التي تقوم على المهنية وديونطولوجيتها.

إنه من الطبيعي جدا، وعلاوة على تشاؤمية برادة، أن تجعل المقاربة الاقتصادية (التجارية)  من الصحفي شخصية بئيسة، لأن المجتمع المغربي بشكل عام  تسيطر عليه – حتى في ظل هذه المقاربة الاقتصادية الميركنتيلية- عقليات وممارسات الارتشاء والفساد والزبونية عوض القيم الرأسمالية التجارية المبنية على ديمقراطية المنافسة، فكيف لا تنجذب الصحافة المهنية –أقول وليس المتنطعة- ضحية لهذه القيم البئيسة الفاسدة.
قيم بؤس الصحافة الذي أنتجته المقاربة الاقتصادية العرجاء واللهت وراء رضا مراكز القرار  التجاري أنتج أمامنا اليوم صحافة لا تختلف عن فرق “السماع والمديح”، حتى لا نقول شيئا آخر، على طرف اللسان..

لقد كنتَ بتشاؤمك حول واقع وآفاق الصحافة بالمغرب متواضعا جدا، أستاذ برادة، إنه واقع يستدعي أكثر من ذلك.. إنه يدمي القلب ويجلط الدماغ.

وهذا ما سيشكل الاختبار الحقيقي للمجلس الوطني للصحافة، حديث النشأة، ويضعه على المحك… وهو يعرف كذلك كيف يمكن للمقاربة الاقتصادية أن تلتف وتتحايل على المادة 125 من القانون  13/ 88.

وعلى نفس المنوال، وحتى لا نكتفي بشق الماء بضربة سيف حاد، كيف يعقل أن نطلب مثلا من مؤسسة في حجم وكالة المغرب العربي للأنباء ذات الوظيفة الإعلامية المهنية أن تكون لها مردودية، بما تحمله الكلمة من معنى حصري في التجارة، في ظل تحديات إخبارية مهنية وأخلاقية وتحديات قيم وطنية تنهار يوما عن يوم.. أليس هذا تحريفا لوظيفتها..؟ عندما يكون منتوجها متلبسا بالتوجيه السياسي الصرف أو بالتجاري الصرف (Doctrinaire)، يُقاس من خلالهما الصحفي(ة) بقيمته المادية خالية من أي اعتبار أخلاقي أو مهني، وهذا هو البؤس، وقس على ذلك باقي المؤسسات، لأن “لاماب” هي نموذج إعلام الخدمة العمومية.

أستاذ محمد برادة:
عاب عنك الشاعر حسن نجمي نظرتك المتشائمة للموضوع وأنا أجد له الشفاعة في منظوره الشاعري لذات الموضوع.