وَهْمُ الخُصوصِية، وصَفاءُ الثَّقافات / صلاح بوسريف

صلاح بوسريف:

هل هناك ثقافة عربية؟ سؤال، بقدر ما يَدفَعُك إلى الإجابة بتأكيدِ وجود ثقافة عربية، بقدر ما يحملُ نوعاً من التَّشْكيك في وجود هذه الثقافة، أو بالأحرى، يضعنا أمام أنفسنا، وكأننا نقف أمام مرآةٍ لنرى فيها وجْهَنا الذي لم لم يسبق أن رأيناه بهذا النوع من الشَّكِّ القَلِق والمُتَحيِّر.
أولاً، حين نتكلَّم عن الثقافة، فنحن نكون بصدد حقل واسع، ومُتَعدِّد، وأمام تعريفاتٍ، تفترض تأطير المفهوم في حَقْل مُحدَّد، حتى لا يكون الكلام في الموضوع عامّاً، وإجمالياً. فنحن، بهذا المعنى، أمام مشكلة، حَلُّها المؤقَّت، في سياق هذا الموضوع، وحسب طبيعة المقام نفسه، هو أن نترك المفهوم مفتوحاً، ولا نخنقه في حقل من دون آخر، ما دام الأمر يفرض أن نتكلم عن ثقافةِ أُمَّة، وعن إنتاجاتٍ رمزية لهذه الأمة، أي عن الرموز والدلالات، حاضرِها وماضِيها، ما دام السؤال لم يُقَيِّد زمنَه بتاريخ من دون غيره. وثانياً، فالسؤال، يشمل العرب لا المسلمين فقط، وهذا أمر مهم، ويُجَنِّبُنا قَصْر الثقافة، وحَصْرِها في مذهب، أو انتماء ديني عقائدي من دون آخر.
هذه المداخل تسمح لي، على الأقل، في حدود قراءتي للسؤال، أو تأويلي له، أن أعتبر السؤال هو نوع من البحث عن الخصوصية. فالاقتصار على الثقافة العربية، معناه، وهذا سؤال كامِنٌ في طيَّات السؤال السابق، أو هو مُضْمَر فيه، هل تنفرد الثقافة العربية بخصوصيات ما، في علاقتها بثقافات الشعوب والأمم والحضارات الأخرى، أم أنَّها لا صَوْتَ لها، وهي لا توجَد إلاَّ تابعة لغيرها، باعتبارها صَدًى له، وهو الرأي الشَّائِع عند الكثرين ممن يعتبرون الثقافة العربية نتاج غير عربي، خصوصاً أنَّ «انحطاط» العرب لأكثر من ستة قرون، كان كافياً ليجعل مثل هذا السؤال، يكون نوعاً من الجواب.
بالعودة إلى ماضي الثقافة العربية، خصوصاً في أواخر حكم الأمويين، وفترة الحكم العباسي، سنجد أنَّ العرب، بحكم ظهور معطيات جديدة، بانخراط لُغات وثقافات وحضارات أخرى، في هذا البناء الكامل، الذي لعب فيه انتشار الإسلام، دوراً كبيراً، وما كان من فتوحات، بلغت جغرافياتٍ نائية، خرجُوا من باديتهم، ووجدوا أنفسهم أمام واقع جديد، فرض عليهم معرفة الآخر، ولو من باب العربي « الفاتح» أو «المنتصِر»، كما أنَّ هذا «الآخر»، المنخرط في هذا الواقع الجديد، حمل معه أفكاراً جديدة، ولعب دوراً كبيراً في تنظيم الحياة العربية، وفي تنظيم الإدارة، وتدبير الشأن العام للدولة الإسلامية، التي أصبح منتمياً لها، بحكم الانتماء الديني. لهذا كان أغلب الذين وضعوا أُسُسَ المعرفة العربية، وقَعَّدوا لها، ليسوا عرباً، وهو ما يسري على الشِّعر نفسه، ليس فقط في فترة انتشار الإسلام، بل وفي ما قبلَه، أي في ما نُسَمِّيه بالعصر الجاهلي، الذي كان فيه شُعراء، برغم انتمائهم لمعتقدات أخرى، يكتبون بالعربية، أو كانوا، بالأحرى شُعراء عربا. وبالعودة للعمل الهام للويس شيخو، ولغيره ممن جاؤوا بعده، من دارسين وباحثين، سيتبيَّن لنا أنَّ فكرة الصَّفاء الإبداعي والمعرفي، تحتاج لمراجعة وتدقيق، وتحتاج لتأمُّلات وبحوث دقيقة، لأنَّ القرآن نفسه، باعتباره عربياً، ونزل بلغة العرب، لم يكن في مَنْأًى عن هذا التأثير، خصوصاً في علاقته بالكتب السماوية السابقة عليه، وما ورد في كتابات السومريين والبابليين والآشوريين، وحتَّى في مستوى الألفاظ، التي لم تأْتِ فيه عربية خاليةً من إنصاتها للسائد في اللِّسان العربي، بحكم علاقات الجوار، والتبادُلات التجارية التي فرضَتْ هذا التأثُّر.
هذا، إذن، ونحن، هنا، بصدد «الأُسُس»، أو «الأصول»، يتبيَّن لنا أنَّ لا ثقافةَ تظهر من تلقاء ذاتها، وكأنَّها خارجة من ماءٍ. فكل الثقافات الإنسانية، هي ثقافات لها خصوصياتها، بحكم التَّلاقُح، وبحكم الحوار، والإنصات، وتبادُل العلوم والمعارف. ما حَتَّم، في لحظة ما على المأمون، بشكل خاص، أن يذهب إلى الثقافة اليونانية، ويستجلب منها كل ما يتعلَّق، ليس بالمنطق والفلسفة، بل وباستصلاح الأراضي، وشق قنوات الرَّيّ، وكل ما يتعلَّق بالمعرفة العلمية، ما فتح الثقافة العربية على أفق أوسع، ووضعها في سياق الإشكالات الكبرى، من مثل العلاقة بين الدين والفلسفة، أو العقل والنقل، ومسألة حدوث القرآن، وأيضاً مسائل من مثل: هل اللغة توقيف أم اتِّفاق.
من المُفيد أن ننتبه إلى هذه اللِّقاءات، وإلى ما طَوَّر الثقافة العربية، وفتحها على الأسئلة والقضايا الكبرى، برغم العوائق الدينية التي تدخَّلت، ليس في المشرق فقط، بل وحتَّى في الأندلس، وكانت سبباً في انحسار هذا الأفق، لكن، مهما يكن، فلا ينبغي أن ننسى، أنَّ هذا اللقاء، كان هو النافذة التي جعلت الثقافة العربية تعرف ما حدث فيها من تفكير فلسفي، وما حدث فيها من دخول في العلم، وانخراط في ابتكار أفكارها ومخترعاتها، وأيضاً، ما حدث فيها من استفادة الدِّين نفسه من المنطق، ومن الفلسفة، ومناهج، وأدوات «الآخر» في تصحيح، وتصويب الكثير من العلل التي لحقت النص الديني، بتنويعاته المختلفة.
نحن، إذن بصدد ثقافة، بقدر ما تتأسَّس على خصوصيات عربية، نابعة من ثقافة العرب ولغتهم وبيئتهم، فهي لم تبق أسيرةَ «البادية»، ولا «القبيلة»، ولا «الدين» نفسه، وأحْدَثت نَقْلَة في اتِّجاه تنويع خصوصياتها، وتَشْعِيبِها. لا معنى لصفاء الثقافات، أو ادِّعاء هذا الصَّفاء، لأنَّ الثقافة ليست ثوباً مُسْتعاراً، بقدر ما هي لباس يسع الروح قبل أن يسع الجسم.
اليوم، يَحْدُث هذا اللِّقاء، بتنويعاتٍ كثيرة، ومن خلال المُثاقفة التي أتاحتْها المطبعة، وانتشار الكتاب، وظهور المعاهد والجامعات، وانتشار البعثات العلمية، وتَعلُّم اللُّغات، وما ظهر من وسائل التواصل الحديثة، وهذا، في ذاته، تعبير عن امتداد الماضي في الحاضر، وفق ما ذهبتُ إليه هنا، في تفسير طبيعة العلاقة التي أحْدَثَتْها الثقافة العربية مع غيرها من الثقافات، لأنَّ المهم، هنا، هو البحث، ليس في خصوصية، أو وجود هذه الثقافة، بل في طبيعة بناء، وتأسيس، أو تأصيل هذه الخصوصية، باعتبارها توقيعاً خاصّاً، ناتجاً عن هذا الحوار والتبادُل، أو التثاقف الذي لا يفتأ يحدث من دون انقطاع.
(شاعر وناقد مغربي)