تشهد الساحة القضائية تشنجات ناتجة عن خلافات بين وزارة العدل و بين بعض القضاة المنتمين إلى نادي القضاة على خلفية مواقفهم و أرائهم التي عبروا عنها بخصوص بعض المستجدات التشريعية و طريقة تدبير للوزارة الوصية لشؤون القضاة بصفة خاصة وقطاع العدالة بصفة عامة . و لقد وصل هذا الصراع أوجه مؤخرا حينما تم استدعاء القاضين محمد الهيني و أمال حماني من اجل المثول أمام المجلس الأعلى للقضاء على خلفية شكاية تقدم بها برلمانيون ولإخلالهم بواجب التحفظ من خلال أرائهم و مواقفهم التي يدونانها على صفحتيهما في موقع التواصل الاجتماعي ” الفايسبوك”.
وهذا الأمر بالفعل يطرح العديد من التساؤلات حول حدود حرية الرأي و التعبير بالنسبة للقضاة ؟ أو بصيغة أخرى فان الإشكال المطروح هو أين تنتهي حرية الرأي بالنسبة للقضاة و أين يبدأ و اجب التحفظ الذي يعتبر من أهم الواجبات الملقاة على عاتق القضاة و الذي أشار إليه الدستور المغربي صراحة في الفصل 111 الذي ينص على :” للقضاة الحق في حرية التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ و الأخلاقيات القضائية…” .
للإجابة على هذا التساؤل لا بد من تحديد المعنى الحقيقي لواجب التحفظ ثم مقاربة ما صدر عن هذين القاضيين من أقوال و مواقف من منظور إخلالها أو عدم إخلالها بهذا القيد الدستوري و الأخلاقي بالنسبة للقضاة.
بداية لابد من التأكيد على انه ليس في الدستور تعريف واضح و صريح لمبدأ واجب التحفظ ، كما أن هذا التحديد غائب في التشريعات المرتبطة بالوضعية المهنية للقضاة ، و هذا مبرر ربما بكون التعريفات ليست اختصاصا تشريعيا بقدر ما هو اختصاص أصيل للمنظرين و الفقهاء و الباحثين، كما أن البحث في المفهوم اللغوي لمصطلح التحفظ لن يفيدنا في شيء أمام الزحم الذي منح لهذا المبدأ في علاقته بسلوكيات القاضي سواء داخل المحاكم أو خارجها.
من اجل ذلك ليس هناك من سبيل آخر لتحديد هذا المفهوم غير تلمس أراء المنظمات القضائية الدولية و كيف أوضحت هذا المبدأ خاصة في علاقته بمبدأ آخر هو حرية الرأي والتعبير الذي يعتبر من أهم الحقوق التي أكد عليه العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية.
لقد أكدت المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشان استقلالية السلطة القضائية التي تم ترسيخها بمقتضى مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين سنة 1988 بميلانو في البند الثامن على أنه :” و فقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين، التمتع بحرية التعبير و الاعتقاد و تكوين الجمعيات و التجمع …” و نفس الأمر حددته المبادئ التي أقرتها مجموعة النزاهة القضائية في بانغالور بالهند سنة 2001 ، و أيضا تلك التي رسخها مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية، و هكذا يمكن القول إن هذه الإطارات القضائية و الدولية المذكورة و غيرها كثير لم تجعل واجب التحفظ يسري على التفاعل مع القوانين و مع مشاريع القوانين سواء تلك التي تهم الوضعية الفردية و الجماعية للقاضي بشكل مباشر أو تلك التي تمس ممارسته المهنية بشكل غير مباشر. و أن واجب التحفظ يعني بالتدقيق عدم الخوض في القرارات و الأحكام القضائية بشكل يمس بمصداقيتها من منظور تحقيق العدالة ، و أيضا عدم إبداء أراء و مواقف حول قضايا مازالت رائجة و لم يتم البت فيها بأحكام نهائية ، و عدم إفشاء السر المهني ، إضافة إلى الابتعاد عن الإدلاء بأي رأي قد يزرع الشك لدى المتقاضين حول حياده و تجرده و نزاهته.
إذن انطلاقا من هذا التحديد المبسط و المختصر لواجب التحفظ انطلاقا من المعايير الدولية، هل يمكن القول أن القاضيين محمد الهيني و أمال حماني قد اقترفا ما يخل بواجب التحفظ من خلال مواقفهما المدونة بالعالم الأزرق.
يمكن أن نجزم مند البداية على أن قرار متابعة هذين القاضيين ليس صائبا باعتماد جميع المعايير العدالة على مستوى الوطني أو الدولي، و انه يضرب الحقوق التي يجب أن يتمتع بها القضاة في حدها الأدنى في العمق، ويحول أن يجعل القضاة مجرد آليات صماء تطبق وتنفذ من دون أن يكون لديها أي موقف أو رأي خارج الإطار الذي يرسم لها من قبل المسؤولين الذين يدبرون هذا القطاع . و عدم صوابية هذا القرار تظهر جيدا حينما نستعرض الحقائق التالية:
أن متابعة القاضيين بناء على شكاية لبرلمانيين مجهولي الهوية بناء على مواقفها من مشاريع قوانين تهم القضاة أكثر من غيرهم، هو نوع من التجني و ليس لهذا السلوك البرلماني سوابق وطنية أو دولية، أو أي سند قانوني أو دستوري يسنده ويعضده. بل على العكس من ذلك فان التوجهات الجديدة في مجال العدالة لدى الدول الديمقراطية التي تؤمن بدور العدالة في المجتمع أصبحت تمنح المواطنين وجميع الهيئات الأخرى إمكانية مقاضاة الدولة على أعمالها التشريعية خاصة حينما تضر بشخص أو بفئة معينة . لذلك فإنه من هذا المنطلق فإن الأولى هو أن يرفع القضاة عبر آلياتهم المهنية مساطر في وجه البرلمان يدعون من خلاله إلى التصحيح و التعويض بالنظر لما شهدته مشاريع القوانين التي ستنظم الشأن القضائي من تراجعات خطيرة تضر باستقلالية القضاء و تزرع الخوف و الرهبة في النفوس القضاة.
أن القضاة من حقهم الدفاع عن حقوقهم و مصالحهم ، و إذا لم يدافعوا عنها فمن سيقوم بهذه المهمة بدلهم ، و الدفاع عن الحقوق يتطلب الانفتاح و التعبير عن المواقف و الآراء بكل حرية فلا يمكن أن ننتظر من وزارة العدل كجهاز ينتمي إلى السلطة التنفيذية الدفاع عن مصالح القضاة و على مبدأ استقلالية القضاء و الحال أن و جودها في حد ذاته هو ضرب لهذه الاستقلالية . كما أن القضاة لا يمكن أن يتقوا في مؤسسة وزارة العدل و الحال أنهم يطالبون بإلغائها و زوالها و جعل القضاء شان قضائي خالص في يد القضاة يدبرونه بشكل مستقل إداريا و ماليا و قضائيا.
إن الدستور ارتقى بدور المواطن في المساهمة و الرقابة على السياسات العمومية في شتى المجالات من خلال منحه آلية الطعن في دستورية القوانين ، ومادام القاضي مواطن قبل كل شيء فمن حقه التمتع بهذا الامتياز الذي يتمتع به المواطن العادي بل إنه من باب أولى فإن القاضي بالنظر للمهام الخطيرة و الجسيمة التي يمارسها فإنه من حقه إبداء أرائه و التعبير عن رفضه لكل قانون أو مشروع قانون يقوض استقلاله بشكل شخصي أو في إطار مؤسساتي . و بالتالي فأن رفض مشاريع القوانين و اعتبارها ردة دستورية له ما يبرره قانونيا و دستوريا.
أن الصلاحيات التي أتيحت للبرلمان انطلاقا من تقويتها عن طريق التعديلات الدستورية الجديدة، أصبحت تمكنه ليس فقط القيام بالأدوار التقليدية من تشريع و مراقبة للحكومة ، بل إنه أصبح من حقه ومن واجبه الانفتاح على جميع الآليات و الأجهزة الحقوقية و السياسية والجمعوية من اجل أن يستوضح النواب أوجه السياسات العمومية في هذا المجال ، و هذا ما يجعل الدور الذي قام به القضاة في إطار نادي القضاة أو الائتلاف المشكل من باقي الهيئات المهنية من خلال شرح و جهات نظرهم حول التراجعات التي وقعت في هذه المشاريع المتعلقة بالسلطة القضائية من صميم العمل البرلماني بمفهومه الجديد المؤسس على ثقافة الانفتاح و التعاون في اتجاه إخراج قوانين تتميز بالجودة و تحقق مفهوم الأمن القانوني في أبهى صوره.
أن قرار وزارة العدل بإحالة القاضيين محمد الهيني وأمال حماني ما هو إلا استمرار لسلسلة من القرارات المخزنية غير الحكيمة التي تقوم بها الدولة، من خلال تدبير أمور بسيطة بقرارات كبيرة تثير الجدل وتضع صورة المغرب الحقوقية والديموقراطية على المحك، مع العلم أنه كان أولى أن تعالج في إطار مرن يراعي اختلاف الآراء وتنوعها ويدعم آلية التشاركية الحقيقية في تدبير القطاع بشكل ديموقراطي . فهذا القرار هو شبيه بالمواقف الكارثية التي اتخذتها الدولة بخصوص مشاكل بسيطة في مواجهة أشخاص صغار ثم ما فتئت أن كبرت هذه الموافق وأصبح الصغار كبارا، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قضية زكرياء المومني وعلى المرابط وآخرون الذين كانت قضيتهم بئيسة ثم تحولت إلى قضية دولية مست في العمق بصورة المغرب الحقوقية و الديموقراطية . لذلك أظن أنه أصبح مفروض أن يتم التعامل بالأمور بمنطق الحوار والابتعاد مع أمكن على سياسة فرض الأمر الواقع وإخراس الأصوات بالعنف والتهديد، لأن ذلك لن يزيد الأمور إلا استفحالا.
د خالد الإدريسي
محام بهيأة الرباط