سلسلة خواطر قضائية / مقدمة من أجل إعادة البناء

 

سلسلة خواطر قضائية
الحلقة الثالثة و الاربعون
مقدمة من أجل إعادة البناء
الجزء 1: من نحن؟ ماذا نريد؟ و كيف نتحرك؟
سنكتب مرة أخرى، و لكن كتابتنا هذه المرة كتابة منهكة، حزينة، تتماهي مع هذا الجسد المنهك، الذي أنهكته نزلة برد حادة، مثلما أنهكت القلم حملات ممنهجة من الهجوم و الاقصاء ، و لكن لا بأس سيتعافى الجسد بجرعات من المضادات الحيوية، كما سيتعافى القلم بجرعات من الإيمان بالمبدأ و القضية، لكن السؤال الكبير و المقلق هو متى و كيف سيتعافى الجسد الجمعوي المهني ؟ هذا السؤال الكبير الذي لازمني في الآونة الأخيرة بشكل ملح و مزعج؟ جعلني أظن، و أقول أظن، حتى لا أزعج أصحاب نظرية المؤامرة، أن المشكلة تكمن في المنطلقات و الأولويات، ففي كثير من المحطات كنت أرى أننا جميعا لا ندرك من نحن و ماذا نريد، و هذا ما جعلنا في كثير من الأحيان لا نعرف كيف نتحرك.
لقد كتبنا في بدايات حراك نادي قضاة المغرب عن دائرة الصمت و إخراجها لنفر غير قليل من طاقات النادي إلى هامش الحياد، ثم نبهنا قبل الجمع العام بأشهر إلى أن قاعدة النادي أصبحت هشة و غير منسجمة و بعد أن تخلصنا من هول الصدمة و آثار الغضب و الإحباط، كتبنا عن أسباب الفشل، إلا أن التطورات الأخيرة و ردود أفعالنا الجماعية و الفردية، و ما ترتب عنها من إنهاك للنادي و تشتيت جهوده، جعلتني متيقنا من أن الأزمة الحقيقية أزمة منطلقات و مقدمات، و أننا ذهبنا بعيدا في كتاباتنا في وقت كان علينا أن نحاول على الأقل التفاهم حول من نحن ؟ و ماذا نريد؟ و كيف نتحرك؟ لا سيما و أن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة بطريقة علمية، ستساعد على الأقل في توجيه النقاش نحو الاتجاه الصحيح، و محاولة فهم أسباب تراجع قاعدة النادي و أسباب انقسامها، و من ثم استشراف الحل الواقعي و الممكن لإخراج نادي قضاة المغرب من عنق الزجاجة.
مما لا شك فيه أن نادي قضاة المغرب تنظيم، ما دام أن التنظيم يعرف بأنه:” أداة تقنية من أجل تعبئة الطاقات الإنسانية و توجيهها نحو غايات محددة”، و التنظيمات أشكال و أصناف، فمنها النقابات و منها الجمعيات و منها الأحزاب السياسية، و الأكيد أن نادي قضاة المغرب جمعية، على الأقل في حدود القانون الذي يستند إليه و ما يتضمنه نظامه الأساسي، و لكن الأهم من ذلك، هو أن النادي يصنف ضمن جماعات الضغط، باعتبار أن جماعات الضغط هي كيانات لا ترغب في الوصول إلى الحكم، و لكنها تمارس الضغط من أجل توجيه القرار السياسي لفائدتها، و إذا سلمنا بأن النادي جماعة ضغط، فإننا سنتفق على أن أكبر رهان هو النجاح في توفير قاعدة قوية و منسجمة و المحافظة عليها و القدرة على نسج علاقات مع الهيئات الرسمية و غير الرسمية، مع إتقان فن إدارة وسائل الضغط و عدم إهدارها أو استعمالها في الوقت غير المناسب، و في هذا السياق سنفهم لماذا اعتبر قرار وقفة فبراير قرارا خاطئا، فالنادي حينها كان يسجل النقاط تباعا، إذ تمت الزيادة في رواتب القضاة خلال الأيام القليلة السابقة للوقفة، و السلطة التنفيذية بجميع آلياتها الرسمية و غير الرسمية عرضت على ممثلي النادي تعليق الوقفة مقابل تحقيق مطالب القضاة، و لكننا اخترنا التوجه بكل قوة صوب الجدار، و أهدرنا وسيلة ضغط مهمة في وقت لم نكن في حاجة إليها، و كانت أمامنا فرصة تاريخية كجماعة ضغط، لنعطي لمؤسسات الدولة الثقة في كوننا كبار و نستطيع أن نكون جزءا من التوازنات، بدل خيار إعطاء الانطباع على أن النادي يصنف ضمن المحظور، و ما وازى ذلك من تراجع مجموعة من الأعضاء و حتى تغيير انتمائهم، فضعفت القاعدة و ضعف معها النادي كجماعة ضغط.
و هذا ليس كلام صاحب الخاطرة، و إنما هو نتاج تراكم لمدارس السوسيولوجيا من خلال تحليلها للظاهرة الجمعوية، إذ في هذا يقول “طوفكيل” أن الناس عندما يفتقدون الخبرة الكافية في فن التجمع داخل جمعية، فإنهم يفضلون الانزواء عن التجمع، مخافة دفع ثمن مرتفع، و يفضلون بذلك أن يحرموا من وسيلة نجاح قوية، على أن يختبروا المخاطر المصاحبة لها”، إنها حاجة الإنسان للأمن، أو ما اختزله ” لافيل” في فكرة “البحث الأناني عن السعادة”، الذي يوازن فيه الفرد بين الرغبة في التجمع لتحقيق المصلحة العامة و الحفاظ في نفس الوقت على مصالحه الفردية، و إذا علمنا أن الحاجة للأمن تأتي على رأس أولويات الفرد بعد الحاجات الحيوية التي تؤمن له الحياة،فيحق لنا أن نتساءل : كيف سيكون الحال، إذا تعلق الأمر بقضاة يعيشون في وسط مغلق، هيمنت عليه لسنوات ثقافة الخوف و التحفظ الذي يصل إلى حد إلغاء الذات. و هذا بالذات ما لم نستحضره في مرحلة معينة، و بالتبعية لم نتمكن من فن الموازنة بين ممارسة الضغط الذي يبقى مهمة النادي الأساسية و المحافظة في نفس الوقت على صلابة القاعدة و تماسكها.
إن عدم مراعاة الأمن داخل الجمعية، كانت له عواقب خطيرة أدى ضريبتها زملاء لنا تعرضوا لعقوبات، شكلت في نفس الوقت ردعا عاما لفئة عريضة من القضاة و ضربا لقاعدة النادي، التي فضل جمهور عريض منها الانزواء الآمن على التجمع المكلف. و حتى لا نحمل الأجهزة ما لا تحتمل، يجدر بنا أن نعترف أن قاعدة النادي تهاوت أيضا لأسباب ترجع لطبيعة القاعدة ذاتها، و هنا يثار توازن من نوع آخر، إنه التوازن المطلوب داخل الجمعية بين المنفعة و القيم، فحسب ” ماكس فيبر” فإن محاولة إدراك ” الواقعة الجمعوية ” من منطلق قيمي وحده يؤدي إلى نتائج خاطئة، بنفس الكيفية التي يؤدي إليها التحليل المبني على فكرة المنفعة، إذ أن نجاح التكتل داخل الجمعية يقتضي التوفيق بين القيم و المنفعة ، و بطبيعة الحال يوجد في كل تنظيم استثناءات إما تميل إلى القيم أو تميل إلى المنفعة، و عندنا توسع الاستثناء حتى كاد يتحول إلى قاعدة، بحيث أن هناك من كانت تربطه بالنادي رابطة نفعية محضة تمثلت في قضية تحسين الأجور، فما أن تحقق له مراده حتى هجر النادي، و هناك من كان طوباويا و غلب القيم في حساباته و أنكر على القضاة حقهم في تحقيق النفع المشروع المبني على الكفاءة و المثابرة، فسمح لنفسه بتخوين كل من حقق ناجحا، و كأن النادي وجد للفشل و لم يوجد للنجاح، بل إن مسألة القيم تم توظيفها في بعض الأحيان توظيفا غير بريء، بحيث استعملت كسلاح لإقصاء و تصفية كل من يسير في الاتجاه المعاكس لرغبة البعض، و هنا نمى الفكر الإقصائي و ترعرع، و الذي بالمناسبة و للأمانة مورس في فترات من قبل جميع الأطراف، ، و كان من نتائجه ضرب مفهوم “أخلاقيات الثقة”، التي تبقى ضرورية لتماسك بنيات التنظيم، و ضرب بذلك جزء آخر من قاعدة النادي، و وجد أبناء الدار الواحدة أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض أمام القضاء.
و اليوم و بعد أن وصلنا إلى المواجهة أمام القضاء، اتفقنا جميعا و لأول مرة على أن النادي يعيش أزمة، و بذلك فنحن مدعوين جميعا للتعلم من هذا الدرس المؤلم، فكما يقال تبني الشعوب نجاحاتها على آلامها، فإذا كان مؤلما ما وصلنا إليه اليوم، فإنه كان ضروريا لنستشعر الخطر و ننتبه لأخطائنا ، و ندرك أهمية الحفاظ على وحدتنا، و حتما إذا استحضرنا من نحن و ماذا نريد و كيف نتحرك، و إذا استحضرنا أننا جماعة ضغط و أننا مطالبون بتحقيق التوازن بين القيم و المنفعة و بين الضغط و أمن القاعدة، سيدفعنا ذلك حتما إلى إدراك أن من يريد ناد ب 300 قاض إنما يعيش الوهم، و أن من يريد أن يواجه مشاريع القوانين ب 300 قاض إنما يحكم على نفسه و على جميع القضاة بالفشل، و تضييع فرصة تاريخية لتدعيم ضمانات القاضي و ضمانات استقلال السلطة القضائية، و هي فرصة لا تتأتى إلا كل 50 سنة، و قد نكون في المرة القادمة في دار البقاء، و نجر معنا ذنب أجيال من القضاء.
إن استحضار ما سبق، و استحضار الظرفية الراهنة التي تعرف، معالجة قوانين سترهننا كقضاة لسنوات، تفرض علينا جميعا النتائج التالية:
– أننا بمصير مشترك و قضية واحدة سواء اتفقنا أو اختلفنا؛
– أننا كجماعة ضغط، نحتاج لقاعدة عريضة و منسجمة، و نحن بذلك في حاجة لجميع الأعضاء، و خاصة في هذه الظرفية الحرجة التي تتطلب توحيد الصفوف بدل المواجهة؛
– أن انتظار البت في الدعاوى و ما سيتلوها من طعون، يعني تجميد النادي لمدة طويلة من الزمن، و استمراره بقاعدة ضعيفة و منقسمة لن تفلح في تحقيق الضغط المطلوب، و لن تحقق أي نتائج تذكر؛
– أن توحيد الجهود يقتضي ، تصفية الأجواء و المصالحة بين أبناء الدار، ثم التنازل عن جميع الدعاوى و الدعوة اليوم قبل الغد إلى جمع عام استثنائي، يعبئ له الجميع و يكون في نفس الوقت فضاء للتتشاور حول أشكال مواجهة التراجعات التي تعرفها مشاريع القوانين على غرار تجربة 05 ماي 2012؛
– و في إطار التوازن بين القيم و المنفعة، يتعين الترويج على نطاق واسع للتراجعات التي تعرفها مشاريع القوانين، حتى يستشعر القضاة الخطر و ينتفضوا للدفاع عن حقوقهم و استقلاليتهم؛
– إن صقور النادي مدعويين إلى التخلي عن العناد و محاولة إثبات الذات، فالرهان على الوقت، و محاولة إثبات كل طرف أنه على صواب، و أنه فرض خياراته و انتصر، إنما هو رهان على الهاوية، لأن الحقيقة الثابتة اليوم هي أننا أخطأننا جميعا و فشلنا جميعا، فنحن لم نتدرج في العمل الجمعوي، بل دخلناه دون سابق إنذار، و ارتكبنا الكثير من الأخطاء، و حان الوقت للاقلاع عنها؛
– أن المحايدين و الصامتين من القضاة، يتحملون مسؤولية تاريخية، و عليهم أن يشاركوا بفعالية لإحياء قاعدة النادي و تصويب الكثير من الأمور على مستوى أجهزته.
عبد الرحمان اللمتوني
سلا في 06/02/2015