استيقظت الجدة عائشة باكراً هذا الصباح من أيام الربيع، أكثر نشاطاً وحيوية، وقد تفتحت زهرة في قلبها. الحاج بوعزة سيخرج اليوم من المستشفى، صلت بخشوع وشكرت الله كثيراً على نعمه وكرمه. كانت أيامها بدونه رتيبة وكئيبة، حتى بوجود حفيدتها الزاهية وابنها إدريس وزوجته مينة الله يرضي عليهم. اشتاقت لصوت بوعزة القوي الذي لم تنل منه السّنُون، واشتاقت لهيبته ومسامرته وهما يسترجعان ذكريات أكثر من نصف قرن معا… ذكريات عام الجوع، عندما كان بوعزة يعطي الحمص لكل من دق بابه. كان تاجر فاكية بالجملة. ولم يتردد في إفراغ مطموراته المليئة بأنواع الحبوب من أجل مساعدة الناس. كان شهماً وسيماً، لونه مائل للسمرة، ربما لجذوره الصحراوية. تتذكر تلك الأيام وتحمد الله اليوم على كل الخيرات، لكنها اليوم، تتحسر على كل المأكولات والنعم الفائضة، التي ترمى ولا تمنح للمحتاج. كانا يتكلمان بإسهاب عن فترة الاستعمار والمقاومة، وكيف كان المقاومون يلتقون ببيته الفسيح. يتواجد داخل زقاق ضيق بعيدا عن الأعين والمتربصين . كان مكانا آمنا. دمعت عيناها وهي تسترجع الأحداث الأليمة ليوم 20 غشت 1955. يوم انتفضت كل ساكنة وادي زم ضد المستعمر الفرنسي، كانت صاحبتها عائشة علال، أول امرأة تموت وهي تقاتل على صهوة جوادها. أخوها هي أيضا واثنان من أعمامها من بين ثلاثة مائة شهيد الذين سقطوا ذلك اليوم. بوعزة أصيب بطلق ناري لولا ستر الله. وباعتزاز تذكرت الخسائر الكبيرة التي تكبدها المحتل الفرنسي. وضحكت وهي تتذكر، بعد الاستقلال كيف فر المسؤول الذي دق بابهم هاربا يكاد يتعثر في جلبابه،جاء ليسجل بوعزة كمقاوم. صرخ فيه بوعزة صرخة أرعبته و هو يلوح بعكازه في وجهه “تريد أن تدفع لي ثمن دفاعي عن بلدي، لن أقبل ولو وهبتني كنوز الدنيا، اذهب من هنا وإلا أشبعتك ضربا لإهانتك لي”. آه الزمن غدار ، كانت الصحة والشباب والقلب الكبير” كلشي ممسوخ فهاذ الوقت الغريب”. بوعزة لا يحب الدار البيضاء،تخنقه كما يقول، ويضيع فيها. يرى وجوها كثيرة لا تبتسم، والصراخ لغتها الرئيسية. الكل يجري في كل اتجاه حتى فقدوا إحساسهم ببعض البعض وبمن حولهم. أغلبهم لا يرى ولا يحس ولا يعيش. ولولا إصرار عائشة على زيارة ابنهما إدريس والطبيب المتخصص الذي على يديه شفيت جارتها رقية، ولم تعد فقرات ظهرها تؤلمها، وظهرها أصبح أقل تقوسا لكان قد قضى نحبه . أما هي، فلا تكاد تستطيع المشي، ظهرها انحنى وهو يحمل ثقل سنواتها السبعين. محاولا إرغامها على تقبيل الأرض، وهي التي كانت دوما شامخة، مرفوعة الرأس والهامة.”السن لا ترحم”، غمغمت بألم. لكن هذا الصباح، أحست بعظام ظهرها تتمدد فرحة بقدوم بوعزة، توأم روحها ورفيق عمرها. سيكون بمقدورها أن ترفع رأسها وتنظر في عينيه وتتملى جماله. حتى قفطانها الأبيض ومنديلها المزركش فرحا لقدومه وظهرا في أبهى حلة..” الله يرضي عليك، بنتي مينة، عمك الحاج تيبغي الدجاج بالتفاية” قالت عائشة . استلقى الحاج بوعزة على فراش دافئ ، وهو يذكر الله، ويسأل عائشة عن صحتها. كانت متوردة الوجه، جميلة بلون الحنة في يدها، وبهرجة ألوان منديلها. وكأنها عروس ستزف إليه من جديد. استخرجت عائشة الجلابة البزيوية بعناية من حقيبة السفر، ساعدته حفيدته الزاهية في ارتدائها. كان ملمسها حريرياً، ناعما،أدخل السكينة إلى قلبه. وفجأة تخيل بوعزة محبوبته عائشة، تجلس في ركن من ساحة بيتهم الفسيح بوادي زم تجلس بعيداً عن الشمس الحارقة، تستظل بدالية العنب الموجودة قرب البئر. وهي تغزل الصوف، عينها على المغزل الذي يدور في حركات متناسقة بديعة،فيتدلى خيط الصوف خانعا لفرد أصبعها. تجمعه بعد ذلك في كبة، ثم تضع ما بيدها جانباً. آن وقت شاي العصر للحاج. ابتسم بوعزة، وهو يتذكر طقوسه الخاصة التي لم يتنازل عنها عشرات السنين حتى حضر هذه المدينة الكبيرة التي يصبح فيها غريبا. كيف لا وطقوسه لا ترافقه.؟كان يفتح صندوق العجائب خاصيته، يستخرج لوازم عمل شاي منعنع.. قالب من السكر، يكسره بمطرقة صغيرة قطعا متوسطة، والشاي الذي يفضله. يتربع ويتنحنح بعد أن يكون قد ابتدأ طقوسه بسكب عائشة الماء الدافئ على يديه في طاس من الفضة. تم يبدأ بعملية التحضير بكل اهتمام وعناية وبدون تسرع. يكون في قمة استمتاعه وهو يصب كأس منعنع بالرزة..وعندما تبنت عائشة ابنة لها من السماعلة، أصبحت فاطنة هي التي تساعده. حتى بعد زواجها، تحضر يوميا لتبر بوالديها وتكون في خدمتهما.لا يفهم كثيرا هذا الشاي الماسخ الذي يحضر في المطبخ، ويسكب في كاسات، ثم يوزع لا لون ولا طعم له. انتهى من ارتداء جلابة البزيوية البيضاء، كانت قد نسجتها عائشة إلى جانب العشرات. تجمع الصوف من بطانية العيد، تغسل وتقرشل وتجبد في آلة الغزل داخل القبة الباردة، لتبدأ عملية نسج خيوط صوف رقيقة. كانت عائشة تحرص على أن يكون متأنقا،وتحب أن تراه كذلك بين أصحابه الفقهة من الزاوية التيجانية وهم يذكرون الله كثيرا ويحمدونه.في جلساتهم الدينية أو بين أصدقائه وهم يستمتعون بأهازيج عبيدات الرمى، رقصاتها المعبرة الجميلة المتناغمة وكلمات أغانيها… تذكر الدور الكبير الذي لعبته عبيدات الرمى أيام الاستعمار في نقل الرسائل بين القبائل وفي إذكاء روح المقاومة بين الناس وحشد الهمم.. وجد نفسه يردد :”نوضو ضربو من هو نفسو بارد.. مخيبو عا الغبرا والخيل تعوم.. نحزموا وكونوا رجالة،،غير ضربوا ولا هربوا..” تذكر كيف كان الجميع يشارك في رقصات سريعة ومتناغمة مع ضرب البندير والطعارج…” إيه آاليام! الوقت كانت زينة” قال في نفسه. وبعناية فائقة أحكم تدوير رزته على رأسه، عدل من جلبابه الناصع البياض بلون قلبه الطيب وروحه الجميلة. وضع بلغته الجديدة، وكان جاهزا لاستقبال زواره من الجيران. حسن أبو الدكتور إسماعيل، حماد مول الحانوت، وبعض جيران الحي، جاؤوا ليشاركوا أهله فرحتهم بنجاته وخروجه من المستشفى.. وهم يحتسون الشاي الساخن ويتناولون الحلويات ويتكلمون بصخب. سرح بال بوعزة قليلا حيث حفيده طه. كم تمنى أن يأخذه بين يديه، ويقبله.
رجعت
نبض الشعب / د. زهرة عز