ذبابة حمراء

” من سرق حذائي؟؟؟,,رمت جميلة رشّاشها بوجه الرجل الأحمر بثباث أفقده اتزانه،، وظلّ ابتسامة حزينة ينير وجهها المتعب، ثم بيد نحيفة مسحت جبينا يندّ عرقا، فقد مشت أميالا طويلة بين أكوام التراب والحجر في طريق غير معبّدة ، بعدما أقبرت ميزانيته بجيوب مثقوبة،،

مدّت قامَتَها القصيرة حتى تنظر بعيون الرجل الفارغة ،،اختفت ابتسامته الصفراء وراء ذهونه المكدسة فاسحة المجال لحيرة زادت من ترهل رأسه واختفاء رقبته،،،وكالأبله نظر بعيونها يستقرىء أفكارها ،
اتسعت عيناه مثل كرة المضرب وهو يتراجع مذعورا خطوة للوراء ، فجأة بدأ ينتفض وجسمه ينكمش ، وينكمش ،، اضطرت الجميلة ان تجلس القرفصاء حتى ترى القزم الصغير الذي اصبح عليه ، تسلل هربا من بين اقدامها الحافية ،،ومازال يتقلص و ينكمش على نفسه ،، توقف ليسترجع انفاسه ،،بحث عن انفه ، لم يجده ، وهو يتحسس وجهه، هاله كبر عيونه البارزة ثم اختفت اليدان ،،وضعته الجميلة في كفها، ونظرت الى عيونه بإشفاق، انتفض ورفرف بجناحيه هلعا ، رأى صورته بمرآة عيونها البريئة وقد أصبح ذبابة حمراء ،،،أدرك حينها أنها تعويذة البراءة والصدق،،
فكر برعب لم مسخ ذبابة وليس كائنا اخر اكثر نظافة وجمالا؟؟ ربما لأن دماغه مشابه لدماغ الذبابة، لايستعمل منه سوى الدماغ المتوسط بينما باقي الأجزاء تالفة ومعطلة، لذلك فوعيه بسيط وإدراكه محدود،،
وربما لأنه لا يولّي اهتماما لجميع حواسه كما الذبابة ، يستعمل فقط الحاسة الأكثر أهمية في لحظة جشعه وجوعه للنهب ، لذلك لايرى كل البؤس المحيط به، ولا يسمع شكايات المظلومين او أنات المرضى ،، ولايتكلم ابدا عن مصدر ثرائه المشبوه ، ،،يستعمل فقط حاسة الشم و اللمس ، أو ربما لأن لديه قدرة غريبة على رؤية العالم بنظرته الشخصية،كما الذبابة، ومن هنا أنانيته ،،كل شيء يدور في فلك ذاته،،
انسلت الذبابة من كف جميلة المنبسط وهي تفكر في مصابها، وطارت بعيدا بسرعتها القصوى في خط عمودي رأسي، تم بجزء من الثانية قامت بدوران حول الساحة ،،،
وهو يغادر المدرسة محلقا، أدرك الممسوخ بوعيه البسيط انه كما الذبابة ،لايعرف التدريج في السرعة ، انطلق بأقصاها يتسلق سلم المجد العمودي وأصبح من الأثرياء بوقت قياسي ،،اختار اقصر طريق للنهب و أكثرها ضمانا،، جيوب الشعب،والتجارة بالسياسة، فسوقها مربح ،،
،وكما هو طيران الذباب الذي حيَّر العلماء لمخالفته قوانين الجاذبية ، كان طيرانه مخالفا لكل قوانين القيم و الأخلاق، قانونه الخاص الذي سطره ” الغاية تبرر الوسيلة” وهكذا انطلق في عالم الفساد باقصى سرعته،وقد رمى بكل المبادىء خلف ظهره،،،

غير بعيد عن مركز المدينة ، حطّت الدبابة علىحافة حاوية للمتلاشيات،،كانت هناك امرأة في عقدها التاني، شاحبة الوجه ,كل ملابسها بيضاء من قمة رأسها حتى أخمص قدميها حتى بلغتها المهترئة ،، بدت كحمامة بيضاء وسط أكوام من الأكياس السوداء،،تحمل بيديها فرد حذاء أسود، وكالفراشة تتنقل من كيس لكيس تبحث عن الفرد التانية ،،وجدت فردة اخرى بلون احمر فكرت لربما تستطيع فركها بالرماد او الفحم سيُصبِح لونها اسود كما الأخرى ، حتى الفرق البسيط بينهما في الشكل لن تنتبه اليه رفيقات جميلة بالمدرسة ،،،ثم سعيدة بغنيمتها ، ولّت الأدبار راجعة الى بيتها المتكسر الجدران والى قريتها النائية هناك حيث لا ماء ولاضوء ولا حاويات أزبال،،،تنتظرها أفواه صغيرة جائعة و أعباء كثيرة من غسيل وتنظيف وتنقية القمح ببيت الخليفة عليها إنهاؤها قبل رجوع جميلة من المدرسة وغروب الشمس،،،

رجعت الذبابة أدراجها للمدرسة ، تبحث عن مكان نتن تحط عليه، لم تجد ملاذها سوى برأس مترهّل آخر بدون قفاة ، فاردا ابتسامته البلهاء يقف وسط ساحة المدرسة ،يتيمة الزهر والشجر، وحوله رجال من طينته وأطفال يتحدثون بصخب عن يومهم المشهود و هداياهم المنتظرة،،و الشمس بكبد السماء تلسع وجوههم الداكنة المغبرة ،،
ابتدأ الحفل، وعلا الهرج والمرج، ووزعت ابتسامات صفراء و محفظات بلون سماء تطلعات الأطفال وبلون احلامهم،،
بينما انشغل الكائن الاخر بالذبابة و بتحريك رأسه، أزعجه انها تقتات منه،ثم هوى بمسبحته الثمينة على رأسه حتى تناثرت حباتها الكريمة على الأرض، كانت الذبابة أسرع منه وطارت بعيدا، لها قدرة عجيبة لرؤية الزمن بشكل مختلف ، وكأنه بالعرض البطيء لذلك تستبق الخطر كما الممسوخ ، قبل ان تهوى عليه يد القانون يكون قد أفلت من المحاسبة والعقاب وطار بعيدا ليحط بأمان على سطح اكثر تباثا،،
فجأة،رمت السماء بثقلها،، أحذية وحقوق، و لاح بالأفق غيوم ذباب هاربة من العاصفة ،،بينما ارتفع صراخ الأطفال بذعر’ طاعون ذباب يلوح بالأفق،،،

Ad image

أيقظه من شروده رجع صدى كلمة شكرا ينخر عميقا بقلبه ، هناك دمعة متحجرة،، احمرّت أذناه خجلا ، نكّس رأسه وهو يرى قدمي الطفلة الجميلة حافيتين وابتسامتها المشرقة وهي تعانق محفظتها الوردية،، نظر في عينيها ثانية يبحث عن إنسانيته وآدميته،، ثم خرج مهرولا تلاحقه نظرات استغراب، ركب سيارته الفارهة، متوجها لفيلته الفخمة ، وقد يركب يخته ليريح أعصابه ويبتعد في جوف البحر وهدوءه عن ضوضاء ضميره،،،طنين الذباب يزّن بدماغه، يخاف كثيرا أن يوقظ أجزاءه النائمة فيصبح أكثر وعيا بمسؤوليته وأكثر إدراكا لحجم المأساة،،،

الكاتبة المغربية الدكتورة  زهرة عز