حوار مع هشام العلوي حول كتابه” الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي “

يُعدُ موضوع التعليم في الوطن العربي من المواضيع المهمة التي ترهنُ مستقبل المنطقة العربية؛ ومن هنا تكمنُ أهميةُ الكتاب الذي قام بحريره كل من هشام العلوي الباحث بمركز ويذرهيد للشؤون الدولية بجامعة هارفارد، ورئيس مؤسسة هشام العلوي وروبرت سبرينغبورغ (Robert Springborg)، زميل باحث غير مقيم في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية، والمعنون بـ “الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي”(The Political Economy Of Education In The Arab World) والصادر سنة 2021 عن دار نشر لين راينر؛ وهو عملٌ سعى أصحابه وفق مقاربات متكاملة من تقديم ربط للوضع السياسي بالمنطقة العربية بوضع منظومة التعليم العربي التي تتسم بالتردي، ولأجل هذا قامت جدلية بحوار مع هشام العلوي حول مضامين كتابه ننشر لكم جزءه الأول:

1- أنتم تدركون بأن هناك العديد من الدراسات التي قامت بها مؤسسات حكومية وغير حكومية وأكاديمية حول وضع التعليم في العالم العربي والتي أجمعت في مُجملها بأن هناك أزمة مركبة يعرفها التعليم، فما هو الداعي من تقديم دراسة جديدة حول التعليم في الوطن العربي؟ وما هو الجديد الذي تُقدمهُ مقاربة كتابكم الجديد؟

لقد تم القيام بالعديد من الدراسات حول التعليم في الوطن العربي، والتي اتفقت في مجملها على وجود أزمة جوهرية، إلا أن الحلول المقترحة طغى عليها ما هو تقني أكثر، مثل تحسين البنية التحتية وتغيير طفيف في مناهج التدريس؛ على سبيل المثال، تتضمن مقترحات الإصلاح المشتركة لتحسين المرافق المدرسية، وإدخال تقنيات جديدة، وتعزيز تدريب المعلمين، وتحديث الكتب المدرسية والمناهج الدراسية، وهي أمور مهمة، لكنها تتجاهل أيضًا المشكلة الأكبر المتجلية في السياق السياسي للتعليم.

يتم تضمين الأنظمة التعليمية العربية في هياكل سياسية أكبر، نطلق على هذه الهياكل “نظم التمكين المحدودة” (limited access orders)؛ وهي معروفة أكثر بالسلطوية؛ تعمل نظم التمكين المحدودة من خلال التحكم في توزيع المعرفة باعتبارها مورداً ثميناً، عبر شرائح واسعة من المجتمع، إنهم يرون التعليم الإنساني الذي يوفر مهارات التفكير النقدي وتحرير الذات تهديداً وجودياً لهم. المواطنون النشطون والعاملون والفاعلون مؤهلون ليشككوا من جدوائية السلطة ويطالبوا بحلول لمشاكلهم الاقتصادية الملحة التي تشهدها دولهم، وبالتالي؛ فإن التركيز الكامل للكتاب هو استكشاف كيفية بلوغ قمع الأنظمة التعليمية إلى هذا الحد، وما هي الإمكانيات الموجودة للقيام بإصلاحات هادفة، وهو ما جعل احتواء الكتاب على فصول قائمة على منهج المقارنة بُغية البحث في الإصلاحات التعليمية الناجحة خارج الشرق الأوسط، كما هو الحاصل في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا.

2- أشرتم إلى أن أزمة التعليم ساهمت في تحريك احتجاجات الربيع العربي، كيف ذلك؟ وهل ترون بأن إصلاح منظومة التعليم في الوطن العربي كفيلة بمُعالجة الأزمات الاجتماعية التي كانت وراء خروج الحشود في الوطن العربي سنة 2011؟

لم تكن الأزمة التعليمية في العالم العربي السبب الوحيد للربيع العربي، لكنها ساهمت في اندلاع الانتفاضات، نظرًا لكون الأنظمة التعليمية مترابطة بنظم التمكين المحدودة التي تؤدي إلى مستويات عالية من عدم المساواة، فقد تُرك مواطنو المنطقة العربية في حالة من التهميش، لقد خرجوا من المدارس التي أصبحت بمثابة مصانع معتمدة، ولم يكونوا مستعدين لسوق العمل الصغير جدًا وغير المؤهل لتوظيفهم، لقد ضَمُرَتْ دولهم في توفير السلع والخدمات، ولم يكن لديها حلول لحشود الشباب المتعطشين للفرص، بهذا المنحى ساهم التعليم المعطوب بنمو شعور بالإقصاء والظلم والعجز الذي أدى إلى اندلاع الربيع العربي.

ولأن التعليم متواشجٌ مع الدولة والاقتصاد، فإن الإصلاحات التعليمية الناجحة لن تكون الدواء الشافي لحل الأزمة الاجتماعية الأوسع في العالم العربي، ومع ذلك؛ فإن اصلاح منظومة التعليم هو جزء من أي حل وجب البدء فيه من الآن.

3- أشرتم إلى أن الأدوار التي لعبتها منظومة التعليم في حقبة “ما بعد الاستعمار” ومرحلة بناء الدولة الوطنية في الأوطان العربية، ليست هي نفسها الأدوار التي باتت منظومة التعليم تعرفها اليوم، كيف كانت هذه الأدوار في مرحلة “ما بعد الاستعمار”، وكيف جعلت تحديات العولمة والزمن الرقمي منظومة التعليم في الوطن العربي في أزمة مركبة؟

على مدى أجيال، تُعدُ الأنظمة التعليمية من اختصاص الدول الاستبدادية التي سعت إلى تنشئة موظفي الخدمة المدنية والمواطنين المطيعين، كما تم استخدام المدارس كأدوات لفرض الثقافات المدنية، التي جسدت الأيديولوجيات الحاكمة أو الهويات التي بُنيت على السرديات القومية التي تهيمنُ عليها الدولة، لذلك سمح التعليم للنخب التي تتحكم في نظم التمكين المحدودة الخاصة بها بتوحيد مجتمعاتها دون توفير الأدوات والمهارات التي من شأنها أن تتيح للمواطنين القدرة على مجابهة سطوت السلطوية.

تعثرت هذه الأنظمة بمجرد دخول الشرق الأوسط عصر العولمة؛ أدت الوتيرة السريعة للتوسع التعليمي في العديد من البلدان العربية خلال عقود ما بعد الاستعمار إلى التضحية بالجودة من أجل التمكين، في الوقت الذي اكتسب فيه المواطنون المزيد من معارف القراءة والكتابة الأساسية، فقد تعرضوا في المقابل لركود نماذج التعلم التي لم تتكيف مع التغييرات الهيكلية الأوسع، مثل كسر حلقة الوصل بين المجتمع وإقليمه (de-territorialization)؛ يعمل الاقتصاد العالمي الحديث جزئيًا على مبدأ الجدارة، والفكرة القائلة بأن نتيجة الفرد في الحياة يجب أن تتطابق مع أداءه وجهده، لكن في النظم التعليمية العربية، نادرًا ما كان الجهد أو الأداء في المدارس ينعكسُ على واقع الحياة، بالنظر إلى غلبة المحسوبية السياسية؛ كان الهدف من التعليم خدمة الدولة، وليس إعداد المواطنين للمنافسة في السوق المفتوحة.

4- أشرتم لمسألة مهمة بأن هناك عوامل تُعقدُ جهود اصلاح التعليم في الأوطان العربية من بينها “هيمنة الإسلاميين” على الجسم البيروقراطي لأجهزة التعليم في الوطن العربي، هل يمكنكم توضيح هذه الفكرة أكثر؟

لطالما كانت العلاقة بين الدين والتعليم في معظم الدول العربية موضوعاً حساساً؛ منذ حقبة ما بعد الاستعمار، تعاملت الأنظمة التعليمية مع الدين كموضوع مقدس ومحتكر حتى في التأويل والتفسير. اختارت الدولة تعاليم الدين بعناية من أجل ضمان بقاء المجال الديني تحت السيطرة السياسية، يشبه هذا الخلاف حول من يمارس السلطة الدينية الحاصل بين عدد من الحكومات العربية في تعاملها مع الحركات الإسلامية، حيث ترفض الدولة جهودها الرامية لتأثير على التعليم عبر صفقات غير مريحة لها. ما يجبُ الاشارة إليه هنا هو أنه إذا كان الإصلاح سيغير هذه الأنظمة التعليمية، فمجال الدين سيظلُ تحدياً يصعبُ حله.

أكبر الدول العربية عالقة في مأزق؛ فمن ناحية، يدركون الحاجة الماسة إلى تحسين أنظمتهم التعليمية الفاشلة، بسبب اقتصاداتهم الراكدة، والحاجة إلى الاندماج مع السوق العالمية، وأدائهم السيئ في معايير الاختبار الدولية، وهم يدركون أيضًا أن مجتمعاتهم تغذيهم رغبة عميقة في تحسين تعليمهم والحصول على فرص أفضل، ومع ذلك؛ فإن إعادة تشكيل أنظمتهم التعليمية بشكل جذري من شأنه أن يخلق مواطنين يهددون مواقع المهيمنين ويزعزعون استقرار الهياكل المرسخة لعدم المساواة، إنهم بحاجة إصلاح منظومة التعليم، وهو ما يُقِرُ ويرغبُ به كثيرون، لكن الاعتبارات السياسية تمنعهم من الالتزام الكامل بمسار الإصلاح.

5- قلتم بأن الوطن العربي لم يدخل في مجمله بعدُ إلى ما يعرفُ بـ “اقتصاد المعرفة”، ما هي المعيقات التي تحول دون دخولنا بطريقة سليمة لهذا الاقتصاد الذي يفرض نفسه في الألفية الثالثة؟

أولاً، يجب أن تقترن أي إصلاحات تعليمية تقنية بإعادة التفكير أساسا في السياق السياسي؛ يمكن دائماً تخريب أفضل المساعي الإصلاحية من أعلى الهرم، على سبيل المثال؛ يمكن أن يؤدي انتشار التدريس المستند إلى الكمبيوتر (أي التكنولوجيا التعليمية) إلى ترقية قدرات الطلاب، ولكنه يمنح الحكومات أيضًا المزيد من الأدوات للتحكم في عملية التعلم.

سعت بعض الدول مثل دول الخليج، إلى استيراد نماذج غربية أو آسيوية للتعليم، وهو ما يمثل حالات استثنائية، فهم يرغبون في مخرجات تلك النماذج المستوردة دون دفع تكاليفها الحقيقية، والتي تشملُ قبول المواطنين الذين يتم تمكينهم أدوات التفكير النقدي، وامتلاك المعرفة والقدرات لتحدي رموز السلطة.

ثانيًا، لا توجد حلول فورية؛ يتطلب الاندماج الكامل في اقتصاد المعرفة عملية طويلة الأمد من التحسين التدريجي المكثف؛ حتى في الاقتصادات المتقدمة مثل أمريكا، هناك تفاوتات داخلية شديدة في توزيع المعرفة، على سبيل المثال؛ في كاليفورنيا ، لا يبعدُ وادي السيليكون عن بعض أفقر أحياء الولاية والمجتمعات الزراعية، أعتقد أن تجربة الهند يمكن أن تكون مفيدة؛ لأنها منخرطة الآن في عملية التأقلم البطيئة هذه، لقد استغرقت الهند جيلين لتحويل نفسها من اقتصاد فلاحي تنتشر فيه الأمية إلى اقتصاد متوسط الدخل يمتلكُ قدرات متميزة في مجال التكنولوجيا الفائقة، وهي الآن واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا خارج الغرب.

يعمل التعليم والاقتصاد بشكل متكافل؛ يتطلب أي تحسين للمدخلات التعليمية أن يوفر الاقتصاد أيضًا فرصًا يمكن أن تستفيد من القيمة المضافة المعززة عند الموارد البشرية، وهذا يستغرق وقتا.

6- هل نحن نحتاج إلى مؤسسات تعليمية مستقلة عن أجهزة الدولة من أجل الانخراط في مسار إصلاح منظومة التعليم، أم أن استقلال التعليم ليس شرطاً في مسار النهوض به؟

لا تحتاج المؤسسات التعليمية إلى الانفصال التام عن الدولة، لكن الأدلة تشير إلى أنها بحاجة إلى الاستقلالية لاتخاذ قراراتها. في الواقع، كان التحرر من التدخل الخارجي مصدر قلق طويل الأمد بين الطلاب والمعلمين؛ خلال الربيع العربي، أدركت العديد من الحركات الطلابية المحتجة في الجامعات العربية مخاطر نضالهم، وراهنت على الحق في انتخاب مسؤولي جامعاتهم والتنظيم دون تدخل سياسي؛ مثل تنظيم المؤتمرات الأكاديمية والمشاركة في برامج التبادل الدولي والنشر بحرية في المنافذ العالمية.

هناك دليلان رئيسيان يؤكدان على أهمية استقلالية المدرسة؛ أولاً، استثمر البنك الدولي مليارات الدولارات في إصلاح التعليم في العالم العربي، لكن هذه الاستثمارات أفضت إلى القليل من التحسن في نتائج التعلم أو النجاح الاقتصادي للخريجين، خلص خبراء البنك الدولي إلى أن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الوضع هو سيطرة الدولة على الأموال الممنوحة لمسارات الاصلاح؛ فالذين يسيطرون على هذه الأنظمة يستولون على الأموال ولا تخصص للقطاعات المحتاجة، هذا يترك المعلمين يشعرون بافتقار لقيمة عملهم.

ثانيًا، غالبًا ما كانت الإصلاحات التعليمية الناجحة في مناطق عديدة تعتمد على منح المدارس والجامعات مساحة أكبر لاتخاذ قراراتهم، دون ضغوط مستمرة من بيروقراطية الدولة، كان هذا هو الحال في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا؛ حيث تميزتا في السنوات الأولى في حقبة ما بعد الاستعمار بمستويات متواضعة من التعليم على غرار العالم العربي، ولكن بمرور الوقت تحسنت أنظمتهم جزئيًا لأن المعلمين تمكنوا من تخفيف بعض الضغوط السياسية الملقاة عليهم، والحفاظ على تنفيد حلول مبتكرة لمشاكل التعلم.

7- نلمس في الكتاب ذكر أرقام مهمة مع توظيفها بشكل منهجي؛ أحدها ما ذكرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأن “رداءة جودة التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعادل ما يقرب من ثلاث سنوات ضائعة من التعليم.” وفي نفس الوقت نجدُ أن المدرسة العمومية “المعطوبة” لازالت تنتجُ علماء وأكاديميين بجودة عالية يندمجون بسرعة في مجتمع المعرفة الغربي، أين الخلل اذن؟

يمكن تقديمُ تفسير لهذه المفارقة من خلال عاملين من عوامل الذات؛ أولاً، تأتي العديد من منتجات التعليم العربي التي يبدو أنها تتكامل جيدًا مع الاقتصادات القائمة على المعرفة في الغرب من مجموعات نخوبية نسبيًا، وهذا يجسد عدم المساواة العميق في العديد من هذه الأنظمة التعليمية؛ يمكن للنخب الممتلكة لثروة أو العلاقات أن يتحملوا تكاليف التعليم الخاص، والدروس الخصوصية، وغيرها من الفرص التي لا يتمتع بها البقية، ونتيجة لذلك؛ فإن عدم المساواة المتأصل في أوامر الوصول المحدودة يعيد إنتاج نفسه.

ثانيًا، يزدهر العديد من المهاجرين العرب من خلفيات غير نخبوية بالفعل في الغرب؛ ومع ذلك، فإن هؤلاء الأفراد يمثلون دليلاً دامغًا على قوة أطروحة كتابنا؛ لا تأتي أزمة التعليم العربي من الثقافة أو المجتمع، ولكن من القيود السياسية الواسعة التي تكبل مسارات حياة المواطنين، عندما يتجاوز المواطنون العرب هذه القيود يبرزون في الاقتصادات القائمة على المعرفة، وهي حجة دامغة تفيد بأن روح ريادة الأعمال وبذور النجاح موجودة لدى جميع الشباب في منطقتنا.

8- قدمتم ملاحظة مهمة مفادها بأن التحول من التعليم باعتباره حاضنة للخدمة المدنية إلى التعليم باعتباره رافعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي، يشكلُ تهديداً للفاعل السياسي لأنه يجعل التعليم يُقدمُ أدوار غير تلك التي أنيطت به من طرف السلطة لأجل تكوين “ولاءات سياسية وبناء هوية وطنية لطلاب”، هل هذا يعني غياب ارادة سياسية لأجل القيام بإصلاح حقيقي لمنظومة التعليم؟

أكبر الدول العربية عالقة في مأزق؛ فمن ناحية، يدركون الحاجة الماسة إلى تحسين أنظمتهم التعليمية الفاشلة، بسبب اقتصاداتهم الراكدة، والحاجة إلى الاندماج مع السوق العالمية، وأدائهم السيئ في معايير الاختبار الدولية، وهم يدركون أيضًا أن مجتمعاتهم تغذيهم رغبة عميقة في تحسين تعليمهم والحصول على فرص أفضل، ومع ذلك؛ فإن إعادة تشكيل أنظمتهم التعليمية بشكل جذري من شأنه أن يخلق مواطنين يهددون مواقع المهيمنين ويزعزعون استقرار الهياكل المرسخة لعدم المساواة، إنهم بحاجة إصلاح منظومة التعليم، وهو ما يُقِرُ ويرغبُ به كثيرون، لكن الاعتبارات السياسية تمنعهم من الالتزام الكامل بمسار الإصلاح.

دول الخليج الصغيرة لديها مشكلة مختلفة؛ لقد طبقوا نماذج أجنبية للتعليم من أجل تغذية الاقتصادات المدعومة بشكل كبير من ريع الطاقة، ومع ذلك؛ فإنهم بذلك لا يستفيدون من مكاسب الإصلاح التربوي الحقيقي، لأن نوع التعلم والبحث المتجسد في أنظمتهم التعليمية المستوردة يظل مقيدًا بالسياسة أيضًا؛ لذلك يجب أن تكون الحلول التعليمية عضوية، فهي غير قابلة للاستيراد من الخارج.

9- هل يمكنُ أن نفهمَ من الكتاب أنكم دافعتم على فكرة “خصخصة التعليم”، حينما ربطتم نجاح التعليم بإصلاح النظام الاقتصادي والسياسي في الوطن العربي وجعله أكثر ديمقراطية وانفتاحاً؟ ألا ترون أن نماذج التعليم الليبيرالية اليوم تعاني بدورها من أزمات داخلية، والعالم اليوم يشهد تقديم نماذج “سلطوية” ناجحة في سياساتها التعليمية، ألا يعني هذا امكانية الجمع بين السلطويات والتعليم الجيد في الوطن العربي؟

الكتاب لا يدافع عن الخصخصة، فهي ليست حلاً؛ في العديد من البلدان مثل مصر، كانت الخصخصة استجابة لأعباء الميزانية المتمثلة في الحفاظ على مدارس عامة غير فعالة، كانت أيضًا طريقة للتكيف مع الضغوط الاقتصادية النيوليبرالية، ومع ذلك، تؤدي الخصخصة إلى تفاقم عدم المساواة المتجذرة في نظم التمكين المحدودة، عادة ما يكون الذين يمكنهم الاستفادة من أفضل المدارس الخاصة إلى أن يكونوا من نخبة المجتمع، وهو ما ينتج عنه نظام متشعب؛ حيث تظل الغالبية العظمى من المجتمع محاصرة في المدارس الفاشلة بينما يتاح لأقلية النخبة الخروج من هذا النظام والنجاح.

يظهر فشل الخصخصة في قطاع التعليم بشكل متوازي مع شروع عدد من الدول العربية في خصخصة اقتصاداتها؛ غالبًا ما كان الفساد والمحسوبية والزبائنية تعمُ ممارسة خصخصة الشركات المملوكة للدولة والأصول العامة، لقد أثرت النخب المرتبطة بالسياسة نفسها، في المقابل معظم المواطنين لم يروا أي تحسن حقيقي في مستويات عيشهم، علاوة على ذلك، تظل العديد من الشركات المخصخصة خاضعة للنفوذ السياسي بقدر ما نظرًا لهيمنة نموذج المحسوبية عليها، إن المدارس التي تم خصخصتها في العالم العربي نادرًا ما تكون مستقلة من هيمنة الدولة، ما يحدث من زبونية في الاقتصاد يتكرر في التعليم.

إليكم الجزء الثاني من الحوار الكامل :
قدمنا في الجزء الأول من الحوار جوهر الكتاب الذي قام بتحريره كل من هشام العلوي الباحث بمركز ويذرهيد للشؤون الدولية بجامعة هارفارد، ورئيس مؤسسة هشام العلوي وروبرت سبرينغبورغ (Robert Springborg)، زميل باحث غير مقيم في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية، والمعنون بـ “الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي”(The Political Economy Of Education In The Arab World) والصادر سنة 2021 عن دار نشر لين راينر.

فيما سيسعى الجزء الثاني من الحوار إلى تسليط مزيد من الضوء على محتويات الكتاب، التي ناقشت التعليم في الوطن العربي وفق نهج متكامل؛ حيثُ سنسعى من خلال هذا الجزء إلى مسائلة بعض الأوراق البحثية التي تضمنها الكتاب من بينها ورقة البروفيسور اسحاق ديوان التي حاول من خلالها فهم العلاقة بين الديمقراطية والتعليم، وكذا ورقة البروفيسور رويل مايير (Roel Meijer) التي حاول من خلالها رصدَ مفهوم “المواطنة” من خلال كتب التاريخ المدرسية للمغرب وتونس ومصر، وورقة البروفيسور فلوريان كوهستال (FlorianKohstall) التي تناولت الإصلاح الجامعي في مصر والمغرب، وكذا ورقة البروفيسور روبرت سبرينغبورغ عن السياسية التعليمية في حقبة السيسي ، وكلاً من ورقتي كريستوفر دافيدسون (Christopher M. Davidson) حول فروع الجامعات الأمريكية في الخليج العربي، وعادل حميزية و أندرو ليبر(Andrew Leber) حول المنح الدراسية المقدمة من الجزائر والسعودية.

1- في بحث البروفيسور اسحاق ديوان يرى أن هناك حاجة إلى تقديم مناهج تدريس أكثر تقدماً من أجل تعزيز الديمقراطية والحرية، في حين يُفهمُ من الكتاب أن اصلاح التعليم لا يتحقق سوى بإصلاح المنظومة السياسية ودمقرطتها، هل يمكن أن توضح أكثر هذه الفكرة؟

لا يُشكلُ هذان النوعان من الإصلاح أي تناقض؛ يقر البروفيسور ديوان، أنه يمكن للعديد من البلدان القيام بالأمرين معًا؛ لأن هذه الأنواع من التحولات لها أطر زمنية متباينة وتضم فاعلين مختلفين، يمكن اعتبار تحديث المقررات الدراسية القديمة وتحسين جودة التدريس أقل تكلفة من الناحية السياسية. هذا هو نوع التغيير الذي يمكن أن يبدأ على نطاق محدود داخل المجتمعات المحلية، قبل أن يمتد للمستوى الوطني. وهو ما يُمكنُ الاصطلاحُ عليه بـ مقاربة ” الأسفل نحو الأعلى”. في المقابل، ستستغرق الإصلاحات الديمقراطية للنظام السياسي وقتًا أطول بكثير؛ في الوقت الراهن يكافح الكثير من الناس لتحقيق هذا التغيير المنهجي، لأنه ينطوي على التعبئة السياسية والتفكير الإبداعي ومفاوضات جديدة مع القادة. يجب أن نتذكر أن “نظم التمكين المحدودة” (limited access orders) لا يتم تفكيكها بين عشية وضحاها، غير أنه يظلُ من الممكن إيجاد سُبُلٍ لاختراق الوضع القائم وتغييره.

2- في بحث البروفيسور ديوان كذلك نلمسُ أن هناك إقراراً بأن ارتفاع مستوى التعليم لم يعد بالضرورة مرتبط بارتفاع مستويات التحول؛ حيث أشار إلى دراسات أقيمت على البلدان غير الديمقراطية والتي أثبتت أن التعليم له تأثير ضئيل أو معدوم على المشاركة السياسية، في المقابل نجد الكتاب يقترح نماذج بديلة من شرق آسيا وأمريكا اللاتينية يمكن أن الاقتداء بها، ألا يمكن اعتبار أن نماذج آسيا خاصة النموذج الصيني أثبت أن التعليم الجيد منفصل على الديمقراطية وقيمها؟

قد يكون استيراد النموذج الصيني محيرًا، لكنه يُضمرُ في المقام الأول مخاطر ناجمة عن تجاهل السياق الذي أفرزَ هذا النموذج وجعله فعالاً؛ فحسب تحليل البروفيسور ديوان فالحكومة الصينية تمكنت بالفعل من فصل التعليم الفعال عن القيم الديمقراطية، ولكن مع ذلك، فإن نظامهم التعليمي مرتبط أيضًا بقوى أخرى داخل الدولة والمجتمع، مثل الحزب الحاكم، وأسواق العمل، والوضع الاجتماعي.

للمضي قدمًا، يتجسدُ التحدي بالنسبة للعديد من الدول العربية في كيفية إعادة هيكلة أنظمتها التعليمية حول فلسفة الشرعية عَبْرَ الأداء؛ هذه هي الفكرة المحورية وراء جعلِ العديد من النماذج الأخرى حول العالم ناجحة، ولكن الطريق إلى هذا النموذج المثالي يجبُ أن يتصف بالأصالة.

3- قدم البروفيسور رويل مايير (Roel Meijer) في ورقته ملاحظة مهمة بخصوص مقررات التاريخ بالمغرب، حينما اعتبرها تتناقض بخصوص تصورها للإصلاح، فمرة نجد هذه المقررات تدعم الإصلاح في نصوص وتقدم التجربة الأوروبية على أنها نموذج رائد وجب الاقتداء به، ومرات نجدها تقدم ” الإصلاح على أنه السبب مباشر وراء الحماية الفرنسية في المغرب عام 1912″، هل هذا الارتباك من شأنه ان يجعل الحداثة بشكل عام والحداثة السياسية بشكل خاص أكثر ابهاماً لتلاميذ؟ ألا يشكل هذا تشوهاً في “الوعي التاريخي” عند التلاميذ؟

يرى البروفيسور ميجر، أنه من الصحيح اعتبار الكتب المدرسية المغربية تُعَلِمُ فكرة أن الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي كان مدفوعًا جزئيًا بدافع تحديث وإصلاح المجتمعات العربية التي كانت تعيشُ وطأة التخلف. ومع ذلك، من الصعب تحديد الدوافع التي تحركُ الذين يكتبون هذه الكتب المدرسية اليوم، والتي لا تتسمُ بالوضوحِ دائمًا. علاوة على ذلك، ولدت التجارب الاستعمارية المختلفة استجابات تعليمية مُغايرة داخل الفصل الدراسي؛ في مصر على سبيل المثال، تتعامل الكتب المدرسية اليوم مع فترة الحكم البريطاني بعداء مطلق، كما تفسر ذلك الجزء من التاريخ المصري على أنه تجسيدٌ لفترة الاحتلال المظلمة.

أخيرًا، يجب أن نتذكر أن الطبيعة الإقصائية للاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا تم خلقها من خلال تعريف “نظم التمكين المحدودة”. أدى هذا إلى تفضيل وجهات نظر النخب الفرنكوفونية حول الغرض من الإصلاح ومعنى الحداثة السياسية لمجتمعاتنا. هذا التوجه الذي أنتجتهُ تلك النخبة لازلنا نحملهُ معنا بوضوح إلى الآن؛ بعبارة أخرى، هذا الأمر لا يعبرُ عن تناقض بقدر ما يعبرُ عن تفاوتات زمنية.

4- يرى البروفيسور فلوريان كوهستال (Florian Kohstall) في ورقته أن المنظومة الجامعية بالمغرب يتم الهيمنة عليها من طرف النموذج الفرنسي الذي تم تبنيه (مثل نموذج إجازة – ماستر – دكتوراه) وهو أمر ساهم في أزمة المنظومة التعليمية بالمغرب، هل هذا يعني ضرورة الانفتاح على المقاربة الأنغلوساكسونية في التعليم الجامعي أم أننا بحاجة لإنتاج نماذج جديدة؟ وفي نفس السياق المغرب أقدم على خطوة تجاوز نموذج (إجازة – ماستر – دكتوراه) الفرنسي هل هي خطوة ايجابية في مسار اصلاح المطلوب أم أنها أمور تقنية فقط؟

لا يمكننا إعادة اختراع العجلة. كما يرى البروفيسور كوهستال، بالفعل أن نظام التأهيل في الجامعات المغربية قد تم تصميمه ليتم تعميمه مع النظام الفرنسي؛ ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن المغرب ببساطة يعيد إنتاج نموذج خارجي؛ مفهوم الجامعات قديم وليست مشروعاً أوروبياً بشكلٍ حصريٍ. وهو ما يشيرُ إليه فصلُ كوهستال في الكتاب؛ مشكلة الجامعات المغربية لا تكمن في هيكلية مؤهلاتها أو هندستها المؤسسية، بل في استقلاليتها عن بقية أجهزة الدولة؛ على غرار معظم الجامعات العربية الأخرى، لا يمكن لمؤسسات التعليم العالي المغربية أن تصبح نبراساً للتميز ما لم يكن لديها سيطرة أكبر على رأس مالها الفكري ومواردها التعليمية، في الواقع، هذا صراع حقيقي يتكشف في العديد من الجامعات الوطنية في العالم العربي.

5- في نفس ورقة البروفيسور كوهستال يرى أن الروح الاصلاحية في الجامعة بمصر بعد الربيع العربي توقفت مباشرة بعد الانقلاب الذي شهدته سنة 2013، وهو ما انعكس على تصنيف الجامعات المصرية بالسلب، هل إنقاذ الجامعات المصرية واصلاحها لا يتأتى سوى بالانتقال الديمقراطي السليم؟ وحسب رأيكم وانطلاقاً من الوضع القائم كيف يمكن احداث انتقال ديمقراطي بمصر هل عبر” مصالحة سياسية” أم ان الوضع يتطلب انتفاضة جديدة؟

اسمح لي في البداية أن أتطرق إلى سؤالك الأخير حول التحول الديمقراطي في مصر، باعتباري متخصصا في العلوم السياسية في السياسة، يمكنني القول إن تحولات الأنظمة هي عمليات معقدة؛ إنها تتوقف على عوامل عديدة، مثل الضغوط الاقتصادية والتعددية السياسية والتعبئة الاجتماعية والجغرافيا السياسية الإقليمية. من الصعب التنبؤ على وجه اليقين بكيفية حدوث التغيير المنهجي في السياسة المصرية، ولكن من المرجح أن يشمل مشاركةً شعبيةً أكبر.

بالنسبة للسؤال الآخر، اسمح لي بتوضيح أكثر لتحليل البروفيسور كوهستال على هذا النحو وأقول؛ إن إمكانية إصلاح الجامعات المصرية ضعيفة بالفعل للأسباب التالية. تعد الإصلاحات التعليمية على المستوى الجامعي أصعب بكثير مما هو موجود في المرحلة الابتدائية أو الثانوية؛ لأن الجامعات في مصر تاريخيًا كانت معاقل للتنافس الاجتماعي والسياسي. إنه المكان الذي نشأ فيه العديد من الحركات الفكرية والجماعات الطلابية والأحزاب اليسارية وأشكال أخرى من التنظيمات التي تمتازُ بالتفكير الحر. وفقَ هذا السياق، من السهل أن نستوعب سبب تشديد الدولة المصرية منذ 2013 سيطرتها على الجامعات الوطنية. كما يجادل البروفيسور كوهستال، بأن رغبة الدولة في نزع الطابع السياسي عن حرم جامعاتها يُمثِلُ إحدى استراتيجياتها في فصل مفهوم التدريب عن نموذج التعليم؛ بحيث يتعامل الطلاب المصريون مع تعليمهم لمرحلة ما بعد الثانوية كمسألة تقنية بدلاً من كونها مرحلة إنسانية تُميزُ حياتهم. ومع ذلك، كما علمنا الربيع العربي، من المستحيل محاصرة المعارضة إلى الأبد، خاصة وأن الجامعات المصرية تمتلكُ إرثًا غنيًا من التثوير الفكري والخطاب الشعبي. لا يمكن للمرء أن يحصل على تدريب فعال لمرحلة ما بعد الثانوية حتى في الأمور التقنية، دون وجودِ مساحةٍ كافيةٍ للبحثِ النقدي والحريات الأكاديمية. وإلا فإن الدولة ستفشل في كليهما: فهي لا تستطيع السيطرة على المعارضة ولا تقديم تدريب فعال تلاميذها.

يمكنُ اعتبار “الاستحقاق” هي السمة المميزة الرئيسية لنموذج شرق آسيا؛ ويتجلى هذا الأمر بمكافأة المستويات العالية من الأداء في التعليم بإنجازات متناسبة تتجلى بالدخول في السياسة، والحصول على مكانة أعلى، واكتساب الفرص الاقتصادية. الفارق بينها وبين نموذج التعليم العربي هو أن معظم أنظمة التعليم العربية تندرجُ في سياقٍ يغلبُ عليه المحسوبية السياسية والزبونية؛ بحيث لا تتمُ مكافئة المستويات العالية من الأداء بنجاح متناسب داخل منظومة الدولة أو الاقتصاد، نقطة أخرى مهمة هي أن جزء من البنية التحتية التعليمية الموجودة في نماذج شرق آسيا هي من إرثِ الاستعمار الياباني، وهو ليس بالإرث الذي يسعى أي شخص لإعادة إنتاجه.

6- في بحث البروفيسور روبرت سبرينغبورغ (Robert Springborg) عن السياسية التعليمية في حقبة السيسي، يرى أن الوضع الراهن المتأزم يخدم مصالح مؤسسة الجيش الاقتصادية، ألا يجعل هذا من المؤسسة العسكرية بمصر مقاومة لأي اصلاح يتعارض مع منظومتها الريعية الاقتصادية التي تشمل مؤسسات التعليم؟

حجة البروفيسور سبرينغبورغ هي أن الدولة المصرية لم يتوقف سعيها في إعادة هيكلة الجامعات فقط، ولكن سعيها امتد لإعادة هيكلة النظام التعليمي بأكمله لخدمة مصالحها السياسية في حقبة السيسي الحالية؛ كان من أكثر الاتجاهات إثارة للاهتمام إنشاء مدارس جديدة مصممة لإنتاج طبقة سياسية جديدة من النخب الموالية لنظام الحالي. هذه المدارس، حسب تصور البروفيسور سبرينغبورغ، تم تصميمها على غرار برامج شباب هتلر في ألمانيا في الحقبة النازية، والتي كانت تهدفُ لخلق كوادر جديدة من البيروقراطيين والسياسيين الذين سينفذون مهام الدولة.

والنتيجة هي إعادة تنظيم الطبقات الثلاث للتعليم المصري. أولاً خدمة معظم الشعب المصري عبر هذا النظام العام المعطوب، ثانياً اتاحة المؤسسات الخاصة لأولئك الذين لديهم موارد، وأخيرًا نقل النخب العليا إلى القطاع الفرعي الجديد من التعليم الذي يشرفُ عليه النظام. بالنظر إلى هذا السياق، فإن أي إصلاح بعيد المدى سيهدد بالتأكيد المنطق السياسي للريع والمحسوبية الذي يشكل العمود الفقري لـ “نظم التمكين المحدودة”. يذكرنا البروفيسور سبرينغبورغ، أن هذا النموذج من إعادة التنظيم القائم على منطلق ” التنزيل الفوقي” تم استيحاؤه من النموذج الذي ساد في ألمانيا تحت حكم الرايخ الثالث؛ اتسم هذا النموذج بالنجاعة لفترة من الزمن ليس بسبب نخبه، ولكن لأن التعليم العام العادي في البلاد كان قادرًا على خلق طبقة وسطى نشطة ومنتجة. علاوة على ذلك، انهار النموذج داخلياً خلال الحرب.

7- تضمن الكتاب ورقتين مهمتين حول الخليج؛ الأولى أظهرت أن تكلفة وجود فروع للجامعات الامريكية بالخليج أكبر من العائد المعرفي المحصل منها، والورقة الثانية أبرزت عدم نجاح منظومة الابتعاث السعودية، ولكن ألا ترى أن فروع الجامعات الأمريكية بالخليج وكذا مشاريع الابتعاث جعلت الشباب الخليجي ينفتح أكثر على منظومات فكرية وسياسية أكثر حرية كفيلة بتغيير قناعات اتسمت منذ عقود بـ “الجمود”؟

من السابق لأوانه القول ما إذا كان وجود فروع للجامعات الغربية في الخليج، أو تمويل برامج المنح الأجنبية مثل ما توفره المملكة العربية السعودية، يمكنه أن يغير الأنظمة الاجتماعية والسياسية لهذه البلدان. ومع ذلك، اسمح لي بأن أبدي الملاحظات التالية، في توجيه الحجج الواردة في هذين الفصلين المقدمين من قبل البروفيسور دافيدسون والسيد حمايزية.

أولاً، دعنا ننخرط في المسألة المرتبطة ببرامج المنح الدراسية. بالتأكيد، يدرس العديد من الطلاب الخليجيين في الخارج في مؤسسات غربية تؤهلهم باكتساب خبرات ثقافية وقيم سياسية جديدة. ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يجعلنا أمام حالة الشباب الذين يدرسون في الجامعات الغربية ويعودون إلى أوطانهم كثوار، كما هو الحال مع هو تشي منه (Ho Chi Minh) الذي تغير مع الوقت في جامعة السوربون في باريس. عندما يعود الطلاب الخليجيون إلى أوطانهم، يتم استيعاب معظمهم داخل أنظمة التنشئة الاجتماعية والمعايير السياسية القائمة في بلدانهم. ومع ذلك، هذا لا يعني أنهم غير مهتمين أو منخرطين في السياسة، هذه الحقيقة أدركها الجيل الجديد من القيادة الشابة الخليجية وسعى لتسخيرها لمواجهة الجيل الأكبر سنا. كما أنني أرى أن المعارف والأفكار التي تعلموها في الخارج بدأت تنتشر ببطء داخل مجتمعاتهم، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكن في المجمل، يمكنُ اعتبار هذا التغيير عملية ديناميكية، من المحتمل أن يستغرق جيلًا آخر ليلعب دوراً مهماً في المجتمع.

وهو عكسُ ما يطرحهُ افتتاح فروع الجامعات الغربية في الخليج. يبدو أن هذه الاستراتيجية تخدم ثلاثة أغراض؛ أولها التقليل من تأثير الطلاب المحليين الذين يدرسون في الخارج ويعودون إلى الوطن بأفكار إصلاحية. بينما الغرض الثاني يتمحور حول تشجيع النخب والحكومات الغربية على المشاركة في مخططات التنمية الاقتصادية لهذه البلدان. ويتجلى الغرض الثالث في الاحتفاظ على التدفقات المالية التي تأتي من هذه البلدان، وإعادة استثمارها محليًا.

8- يقدمُ الكتاب أرضية مهمة جداً لمعالجة مشكلة التعليم وعلاقته بإصلاح المنظومة السياسية، هل الكتاب ثمرة أولية لمشروع اكبر تشتغل فيه؟

يأتي هذا المشروع من التزامي الفكري الأوسع نطاقًا وعملي الأكاديمي المرتبطِ بالتحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد درستُ ديناميات التحول السياسي والاستمرارية المؤسسية التي تعرفها منطقتنا لمدة خمسة وعشرين عامًا. بعد الربيع العربي، بدأتُ في تقديم تحليل نقدي لمسارات التنمية السياسية طويلة المدى التي تتسمُ بها هذه البلدان، أدركت أنه بينما يتم اكتشاف التغيير السياسي بوضوح على مستوى المؤسسات والأنظمة، فإن اللبنات الأساسية لتقدم ستبقى دائمًا داخل رحمِ المجتمع. أريد أن أكرس توجهي نحو هذه القوى البشرية الغير مسيسة بشكل مباشر، والتي لها في المقابل تأثيرات سياسية مهولة.

9- ما هي طبيعة المشاريع القادمة التي تسعى لتقديمها عبر “مؤسسة هشام العلوي”؟

هناك العديد من المجالات الأخرى التي تستأثرُ باهتمامي وتنعكسُ بالمِثْلِ على الموضوع المتمثل في التركيز على اللبنات الاجتماعية للتغيير؛ المجال الأول مرتبط بطبيعة الحكم المحلي، بما في ذلك السياسة الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. المجال الآخر يتمحور حول المُسائَلة النقدية المرتبطة بآثار المساعدة الأمنية والصراع في جميع أنحاء منطقتنا، كما أن التغيير المناخي وما يترتب عنه من انعكاسات سوسيو-اقتصادية تمس المجتمعات بات موضوعًا آخر يفرضُ نفسهُ بإلحاح.

تمثل كل هذه المجالات البحثية التي تم وضعها تحت الدراسة أو لم يتم دراستها بالشكل المناسب وفق المنظور السياس والاقتصاد السياسي. إنني أعملُ في مسار إشراك هذه المجالات عبر إنتاج الخبرة من خلال التعاون الأكاديمي، وتعزيز المداولات التأملية العميقة بين الباحثين، وتشجيع التحليل عبر الإقليمي من أجل اكتساب نظرة أفضل لمنطقتنا واقتراح حلول للتحديات. كل هذه المواضيع أشتغل عليها خلال السنوات الأخيرة في الفضاء الذي أرتاح إليه ويلائمني الفضاء الجامعي في الولايات المتحدة.

عثمان أمكور .