حمالة الوطن

بقلم : د. زهرة عز
لم تعد مّي فاطنة تثير الفضول أو الاستغراب. تعوّد على وجودها كل أهل “حيّ المحمّدي” بعدما اختارت بعناية فائقة زاوية من حائط القيصارية يطلّ على مدخل ”
كاريان سنطرال”. ترقب الداخل والخارج، و تأمل بمعانقة حبيبها الغائب.
كانت بالليل تحتمي بمدخل المسجد القريب. تفكّ حمّالتها، تضع ثقلها، تجعل منه وسادة. تفرش بعضا من كارتون على الأرض، ثم تريح جسدها النحيل على الأرض الصلبة، وهي تسند رأسها على وسادتها، رزمة من ثياب بالية، و تفرد حمّالتها المثيرة لتتغطى بها، لم تكن تفي بالغرض وتقيها من البرد القارس ولهذا كانت مّي فاطنة تتكوّر كالجنين وتدسّ رأسها وقدميها باللحاف العجيب طلبا للدفء
كان آذان الفجر يوقظها. تسارع بالدخول للمسجد، وغالبا ما كانت دموعها تفيض وتكون أكثر انسيابا من حنفية الوضوء، ثم تصلي بخشوع، وقد جعلت من حمّالتها سجادة، وتطلب من الله أن يريح قلبها ويقرّب البعيد، وبعد صلاتها تعيد حمل ثقلها على ظهرها. تشد عليه حمّالتها المثيرة ثم تتجه لمكانها المعهود، بخطى أثقلتها سنواتها السبعون، وصندل متهرئ عنوان بؤس لصيق، أعلن ارتباطه الأبدي بها.
كانت مّي فاطنة تسند ظهرها على الحائط. تجلس القرفصاء ولا تستغني أبدا عن حبيبتها. لم تكن جلستها مريحة. الرزمة كحدبة. تزيد من ألم عمودها الفقري، لكنها بدون حمّالتها لم تكن تشعر بوجود عمود يحفظ توازنها، تمنحها بعضا من دفء يسري بجسدها، ويدغدغ ذاكرتها وذكرياتها. و كانت تحرص أن تجعل عقدتها المحكمة قريبة من قلبها، وغالبا ما كان المارّون يرونها تمسك بتلابيب العقدة. تحدثها وتهمس لها.هي تؤمن أن للحمّالة روح تسمعها، وإلا لم كانت دقّات قلبها تتسارع كلّما وضعت يدها عليها وخاطبتها؟.
لم تعد مّي فاطنة تشعر بالجوع بعدما انطفأت نار موقد مطبخها المتهالك، وأُتْلفت طناجرها، لذلك كانت تكتفي ببعض كسرات خبز وكأس شاي، وما يجود به المحسنون المتعاطفون مع قصتها. حملها ثقيل، لا تريد أن تغادر الدنيا قبل أن تعيد الأمانة لحبيبها الغائب، وتطبع قبلة على جبينه.
قبل ستة أشهر ، كانت مستقرة ببراكتها المتهالكة مع وحيدها وقرّة عينها عبد المغيث ،بين جيران تبادلهم المحبة والسؤال، وتشاركهم الفاقة..
تحكي مّي فاطنة لكل من يسألها ، أنها راضية عنه دنيا وآخرة. كان يقيها السؤال، يتعب طيلة النهار من شروق الشمس إلى غروبها بسوق الجملة للخضار ولا ينسى أبدا أن يحضر لها معه موزا وبرتقال، يقبّل رأسها، ويجلس أمامها كالطفل الصغير يطعمها بيده. لم يعد للبرتقال أي مذاق بعد رحيل ابنها، لذلك زهدت به، تنتظر مّي فاطنة عودة ابنها لتسترجع حاسة الذوق وتستمتع بحلاوة البرتقال..
كانت تعيش راضية برعاية ابنها البار، ما كان ينغص عليها حياتها أحيانا، هو توديعها لجيرانها وهم يغادرون دور القصدير وينتقلون للعيش بأقصى المدينة، فيما كانت هي ما تزال تنتظر أمر الاستفادة. تستعيد مّي فاطنة يوم نزحت هي وزوجها من ثلاث كزولة، نواحي أسفي بعدما توالت سنوات الجفاف، ولم يكن من النزوح للمدينة بدّ. لم تتعوّد على العيش بمدينة الدار البيضاء إلا بعد سنوات. استأنست بحيّها وجيرانها، وعندما سقط زوجها من ارتفاع خمسة طوابق  وهو ينهي وضع الإسمنت واجهة عمارة في طور البناء، ودّعت الأمان والاستقرار.
كان المعطي يعاني من مرض السّكّر. أصيب بانخفاض حادّ فقد معه توازنه وحياته. هذا ما أخبرها به الطبيب الذي شرّح الجثة. لم يكن زوجها يعرف بمرضه، ولم تعرف هي أبدا لِمَ أصيب به، وقد غابت كل الحلويات عن مائدتها، ونادرا ما كانت تزينها في الأعياد. لم تحصل مّي فاطنة على أي تأمين رغم أن وفاة زوجها كانت حادثة شغل. فالمقاول كان يستعين بالعطّاشة في البناء، يشتغلون دون تذمر، وأياديهم تعودت على الشقاء بصمت حدّ التشقق. لذلك خرجت مّي فاطنة للشغل حتى تعيل ابنها الصغير . تشتري بعضا من خضار تفردها في السوق وتعيد بيعها لترجع ببعض دريهمات تسد بها رمق أسرتها الصغيرة.
كبر عبد المغيث وكبرت مصاريفه، لم تستطع مّي فاطنة تأمين كل متطلباته. كان يعشق لعب كرة القدم، الكل تنبأ له بمستقبل زاهر إلا أنه أهمل دراسته، ولم تستطع مّي فاطنة شيئا أمام ذلك. جلس مكانها بالسّوق ثم انتقل إلى سوق الجملة. اشتغل حمّالا، ثم بائعا بالتقسيط. وفي آخر الأسبوع يكون هدّاف فريق الحي لكرة القدم.
إلى أن جاء يوم كانت مّي فاطنة تحضر حفل زفاف ابنة جارتها زينب. أحضرت نصيب عبد المغيث من الوليمة، وجدته جالسا في الظلام يشهق بصوت عال. أنارت الضوء، ارتمى في حضنها وهو يضع قبلة مبللة على ظهر يدها المرتعشة، وقال :
ــــ سأهاجر وإلا أموت. سأكون أفضل حالا من العريس الذي فضلته علي زينب فقط لأنه بالخارج. تقول إنها تحبّني لكن لا مستقبل لها معي.
صدمت مّي فاطنة لمصاب ابنها ولم تستطع منعه من تنفيذ قراره. -سأحقق حلمي هناك بالضفة الأخرى وأصبح لاعبا مشهورا مثل رونالدو، وذا مالّ، أضاف عبد المغيث. منحته مّي فاطنة كلّ مدخراتها، حتى النقود التي كانت تحتفظ بها لموتها،، لطالما حلمت بعشاء تأبين مميّز، يحضر فيه اللحم والدجاج والفواكه.
منذ مدة استبدلت مّي فاطنة حلمها بزيارة الأراضي المقدسة والحج إلى بيت الله بحلم عشاء يهبها موتا مميزا واحترام الجميع. تخلت عن حلمها بالحج بعدما أصبح مجرد التفكير فيه ترفا ومعجزة لأمثالها، فمن باب قرعة القبول إلى باب الطائرة، فباب النزل أو الفندق، آلاف الدراهم. تساءلت مرة الله غني وجميل، فهل يحب الأغنياء أكثر؟ يستدعيهم لزيارته مرات ومرات.
عندما بكت مرة بحرقة وهي تتابع مراسيم الحج بالتلفاز مع جارتها مليكة التي قالت لها:
ــــ “باقي ما عيطش عليك ”
ــــ يوم يفعل ثقي أنك ستذهبين لزيارة الحبيب.
في تلك الليلة كانت هناك ،، تطوف مع الحجاج وتتبرّك بقبر الرسول! بعد أن حكت حلمها. هنّأها الجميع، وأصبح الكل يناديها بمّي الحاجة فاطنة. قال لها يوما ابنها عبد المغيث، لم تتعذبين أمي وتتأوهين بحسرة لأنك لم تذهبي للحج؟ لا أظن أن لك ذنوبا تسعين لمسحها، لم تؤذي أحدا يوما ولم تسرقي أو تظلمي . أظنك أشرف من الملاك نفسه، أضاف غاضبا وهو يغادر البراكة. بعد برهة رجع، قبّل يدها ووعدها أن يحقق أمنيتها..
تتذكر مّي فاطنة بحسرة، بعد سفر ابنها بشهور وانقطاع كل خبر عنه، كيف استيقظت مرعوبة بالليل ، تتلمس طريقها إلى الباب. كان صوت الرعد قويا، غاضبا والمطر غزيرا، لم تفهم كيف طار السقف وانخلع باب البراكة الصدىء؟ ولا متى غرقت أرضيتها بالماء. لم يكن هناك تصريف للمياه بالحي، لذلك فكل مداخل البراكات كانت قنواتا للصرف. صرخت، ثم نظرت للجدار، لوحتها الغالية ما زالت هناك. تذكار عزيز من المعطي زوجها. كان من الأوائل الذين لبوا نداء الوطن وشارك بالمسيرة الخضراء، لم يحضر ولادة عبد المغيث، الوطن أولا، ولما رجع من واجبه، كان فخورا وهو يحكي عن تلاحم المغاربة ورسالتهم القوية للعالم. قبّل ابنه في جبينه. غطاه “بالراية الحمراء” وزين صدره بنيشان جميل يحكي عن بطولته.
احتفظت مّي فاطنة بالعلم في خزانتها، وعندما مات المعطي، استخرجته وزينت به جدار البرّاكة مع صورة له بالصحراء أثناء المسيرة الخضراء… كان أول شيء طالته يد مّي فاطنة في تلك الليلة البائسة العلم، الصورة، النيشان، ثم بعضا من ثياب لم تغرقها مياه الأمطار قبل أن تغادر البراكة التي تهاوت بعد حين. لم تستفد مّي فاطنة من سكن بديل،، لذلك لم تجد مّي فاطنة رحمة سوى في الشارع تتلحفه ويتلحفها. و لم تذهب بعيدا حتى لا تضيع كما ضاعت البرّاكة.
تحتفظ مّي فاطنة بحمّالتها قريبا من قلبها حتى تمنحها بعض الدفء، هي أمانة ستسلمها لولدها، إرثه من أبيه، صورة، نيشان وعلم. كانت تحلم بمعانقة ابنها عبد المغيث،،، وكان عبد المغيث يحلم أن ترجع رفاثه لأرض الوطن، بعدما انتشل غريقاً بالمياه الإسبانية، يحلم أن تسقي دموع أمه تربته، فتنبث ياسمينا، وريحانا. يحلم أن يغادر ثلاجة الأموات بالجزيرة الخضراء، بعد أن أصبح مجرد رقم مجهول. يريد أن يستعيد هويته واسمه المعلوم، عبد المغيث ولد المعطي وفاطنة. كم ارتجف في سباته العميق من برد الاغتراب و هو يدعو أن يكون كفنه، عَلَمُ بلاده، إرثه من أبيه المعطي ذات نداء وواجب.
دوَّت سيارة الإسعاف من بعيد. إنها حمّالة الوطن، مّي فاطنة، تجلس بشموخ حاضنة العلم، وبيدها اليمنى ترتكز على عكازها. لم ينتبه لوفاتها أحد، حتى اقتربت منها قطة شاردة، لامست العكاز الذي سقط فهوت مّي فاطنة على الأرض. كان موتها مدوّيا، ربما أكثر من تطلعاتها، ظلت سيرتها حديث الناس. حمّالة الوطن امرأة قديسة، موتها يشبه موت النبي سليمان، لم يعرف الجن بموته إلا بعد أن تآكلت عكازته وفقد توازنه. كيف لا تكون كذلك وهي تلتحف وطنا وتحضن نجمة المقدَّس؟؟
بدون جنازة ولا مأتم دفنت مّي فاطنة، مثل ابنها عبد المغيث، غريبة، مجهولة، بدون هوية. لم تجد سلطات المدينة ما يثبت انتماءها لوطن أحبته وحضنته حدّ الموت.