يكتبها : د . محمد الهيني
إن استحضار التوجيهات الملكية السامية والمقتضيات الدستورية للسلطة القضائية في مناقشة وتقييم مشروعي القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاء يجعلك تخرج بقناعة أكيدة أنها تشكل في الحقيقة انتكاسة وردة دستورية في مجال استقلال السلطة القضائية، ومقتضياتها خارجة عن زمن دستور 2011 نصا وروحا.
ومساهمة منا في النقاش الوطني حول تنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية من خلال تجميع وتقييم الآراء والتصورات وتبادل الأفكار والخبرات حول سؤال إصلاح القضاء بالمغرب الذي يكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى انتظارات المواطنين وآمالهم في قضاء قوي وفعال ومنصف، وبالنظر للانتقادات والملاحظات الموضوعية والوجيهة لمنهج إعداد مشاريع قوانين السلطة القضائية ولنصوصها من طرف كل الجمعيات المهينة والحقوقية والتي أجمعت على ضرورة إعادة النظر فيها جدريا في اتجاه ضمان استقلالية السلطة القضائية من منطلق أن الأمن القانوني والقضائي للقاضي أولوية الأولويات ،لأنه لا يمكن للقاضي حماية الحقوق والحريات وهو مفتقد للحماية الذاتية،مادام أن استقلال القاضي ليس امتيازا شخصيا له ،وإنما امتيازا للمتقاضين للاحتماء بقضاء مستقل وعادل.
إن مناسبة مناقشة مشروعي” السلطة القضائية” أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين والسرعة القياسية التي تسير بها عملية المصادقة ،وإجماع الجمعيات المهنية القضائية والجسم الحقوقي على عدم دستورية العديد من مقتضياتهما ،يجعل من المهم جدا في هذه المرحلة الدقيقة من مخاض ولادة عسيرة قد تكتمل وقد لا تكتمل للسلطة القضائية من رحم السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، الوقوف على ملامح عدم الدستورية هاته، ولاسيما الأخطاء الدستورية الكبرى التي لا تغتفر ، ومخالفتها سواء للمرجعية الملكية أو المعايير الدولية لاستقلال السلطة القضائية، بغية المساهمة في تجويدهما وتجنيبهما المصير المنتظر أمام المجلس الدستوري والمتمثل في حتمية السقوط المدوي لأهم موادهما تحت المجهر الدقيق والمتبصر للقضاء الدستوري كما عودنا دائما إن لم يتم استدراك هذه الاختلالات الجوهرية التي تعدم أي أمل لسلطة قضائية حقيقية وفعلية .
-1- الخطأ في القانون والمسؤولية المهنية للقاضي ؟
إن المادة 97 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة المصادق عليه من قبل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب تثير إشكالية عدم دستوريتها لأنها تتناقض واستقلال السلطة القضائية، وكذا مضمون الفصل 117 من الدستور الناص على أن القاضي يتولى حماية الحقوق والحريات وصيانة الأمن القضائي، والتطبيق العادل للقانون حسب المادة 110.
فالمادة 97 المذكورة تلغي قانونيا وعمليا الاجتهاد القضائي للقضاة والمحاكم، لأن القضاة مدعوون إلى التطبيق الحرفي والّآلي للنصوص القانونية وتطبيقها حرفيا على الوقائع المعروضة عليهم -دون عبرة لحماية الحقوق والحريات والأمن القضائي ولا التطبيق العادل للقانون -وذلك تحت طائلة تعرضهم للمساءلة التأديبية بدعوى وقوعهم في الخطأ المسطري أو الموضوعي الخطير في خرق سافر وفاضح بأبجديات وظيفة القاضي الدستورية والدولية ولدور محكمة الطعن ولوظيفة سلطة التأديب التي خولها المشروع صلاحية الرقابة على التطبيق السليم للقانون وتقدير درجة خطورته وكأنها محكمة الطعن التي استعيض عنها بجهاز التأديب الذي سيعتمد الخطأ في القانون لتقييد عمل القضاة وفرملة اجتهاداتهم والضغط عليهم وتهديدهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة للتأثير على استقلالية القضاء والقضاة في احكامهم في مخالفة صريحة للمعايير الدولية لاستقلال السلطة القضائية.
إن الثابت من استقراء المعايير الدولية للمسؤولية القضائية أنه يمنع اتخاذ أي اجراءات تأديبية لمعاقبة القضاة عن محتوى القرارات والأحكام القضائية لتوقي الاستخدام التعسفي والسيئ للتدابير التأديبية على حساب استقلال القضاء لأنه من واجب الدول وضع معايير موضوعية لتوقيف أعضاء السلطة القضائية أو عزلهم وإخضاعهم لعقوبات تأديبية لضمان سيادة القانون وتعزيز الثقة في السلطة القضائية وتأمين ضمانات لقيام القاضي مهامه دون خوف من المساءلة عن مجرد تطبيق القانون حتى لا يتردد في الإعمال السليم له ليشعر بالأمان والثقة في عمله وأحكامه ،هذه المعايير والتقارير الدولية للأمم المتحدة محط إجماع العديد من مجالس السلطة القضائية بالعالم والمؤكدة أن الأخطاء في القانون مجاله طرق الطعن وليس التأديب.
– 2-التضييق على حرية الرأي والتعبير
المثير للجدل هو توسيع مجال الحظر على حرية التعبير المضمونة دستوريا في الفصل 111 ليشمل ليس فقط الموقف السياسي، وإنما أيضا التصريح المعتبر سياسيا أي الذي يكتسي صبغة سياسية -المادة 97- والمعد خطأ جسيما يترتب عنه توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه والذي قد يترتب عنه عزله من سلك القضاء، مما سيعصف بشكل واضح بحرية التعبير بالنسبة للقضاة وسيجعلهم قضاة صامتين لا رأي لهم، لأن كل تصريح أو موقف إذا لم يكن سياسيا سيعتبر كذلك من باب الاشتباه قياسا على” الظهير المنسوخ لكل ما من شأنه “للتضييق عليه ،وهذا يعد في الحقيقة مخالفة للدستور ولاسيما الفصل 111 الذي متع القضاة بحرية التعبير طالما أن التعبير متوافقا مع مبادئ التجرد والاستقلال والأخلاقيات القضائية، فضلا عن أن هذا المفهوم غير منضبط بالمرة، ويستوعب جميع التصريحات التي يمكن الإدلاء بها من طرف القاضي بمناسبة عمله الجمعوي أو المهني أو العلمي في المنتديات العلمية والثقافية وفي وسائل الإعلام، والهدف منه إقبار كل رأي قضائي حر مدافع عن استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ،لأنه سيؤدي إلى فتح مجالات المتابعات التأديبية الموجهة كما رأينا مؤخرا بحق قضاة الرأي عن كل انتقاد للسلطة التشريعية أو التنفيذية أو حتى لمؤسسات السلطة القضائية ،وكأنها معصومة من الخطأ.
إن التجريم التأديبي “لكل تصريح معتبر سياسيا” يبرز أزمة القلق التشريعي من تنامي موجة حرية التعبير وتأثيرها على أداء المؤسسات التي عوض أن تتلقف مكامن الخلل وتسعى لإصلاحها تحاول وأد مكتشفيه”الخلل” والرمي بهم في أحضان التأديب حتى يرتدع دعاة الاصلاح ويلتزمون بإخراس ألسنتهم، لأن سيف التأديب قد يسلط عليهم عاجلا أو آجلا بشكل مطاطي وبتفسير واسع لا يخضع إلا لمخيلة أصحابه ، لأنه حمال أوجه تبعا للتفسير المراد له ولاستخداماته المتعددة التي يمكن استغلالها لا قدر الله للمس باستقلال القاضي مستقبلا في أي وقت وزمن،وسيحول القضاة إلى قضاة صامتين والجمعيات إلى جمعيات صامتة .
-3-حظر تأسيس الجمعيات المدنية وتسييرها ؟
لقد حظرت المادة 38 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الاساسي للقضاة على القضاة تأسيس جمعيات مدنية غير مهنية أو تسييرها بأي شكل من الأشكال بالمخالفة الصريحة والقاطعة للفصل 111 من الدستور رغم أن المشرع الدستوري لم يضع أي تقييد على حرية الانتماء للجمعيات غير المهنية ولم يميز مطلقا بين العضوية العادية والعضوية التسييرية بالجمعيات المهنية أو غيرها من الجمعيات الحقوقية أو المدنية، لان درجة العضوية تخضع للانتخاب الحر والديمقراطي والشفاف لأجهزة الجمعيات المعنية، وبقرارها الحر والمستقل الذي لا يجوز فرض الوصاية عليه خارج الدستور والقانون لتعلقه بالحقوق المدنية لكافة المواطنين ومنهم القضاة الغير القابلة للتنازل أو الإسقاط،لأن تنظيم الجمعيات وتسييرها وفق الفصل 12 من الدستور يجب أن يكون مطابقا للمبادئ الديمقراطية، كما أنه وفقا للبندين الثامن والتاسع للمبادئ الدولية لإعلان استقلالية السلطة القضائية الصادر بتاريخ 6/12/1986 فإنه تأسيسا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنه يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع، وفق مسلك يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء،وتكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات للقضاة أو غيرها من المنظمات بمختلف أنواعها لتمثيل مصالحهم والنهوض بتدريبهم المهني وحماية استقلالهم القضائي، وفى الانضمام إليها.
إن تشريع الخوف والتردد بمنطق الصراع لا التعاون لن ينتج إلا فقدان الثقة في المؤسسات ويعدم وجودها ،ويعكس خلفية صادمة لحرية التعبير والحق في التنظيم بمختلف درجاته ، وتشكل انتكاسة حقيقة للفصل 111 من الدستور، فهل يصدق أي مواطن أن القضاة مواطنين ناقصي الحقوق المدنية باعتبارهم محظور عليهم رآسة أو تسيير حتى جمعيات القنص والجمعيات الرياضية وجمعيات تسيير الإقامات والشقق التي يقطن القضاة فيها؟
– 4-غياب الاستقلال الاداري والمالي للمحاكم وتبعيتها لوزارة العدل
يسجل في المشروع الإبقاء على الادارة القضائية على وضعيتها الحالية التي يقر الجميع بفشلها مع بعض التعديلات الطفيفة التي لن يكون لها تأثير على مستوى الواقع مما جعل القضاة وحدهم في المغرب مفصولون عن محيطهم المهني فالقضاة تابعين للمجلس والمحاكم تابعة للوزارة فمثلا فالرئيس المنتدب لا يملك حتى حق اقتناء قلم للمحاكم مما يجعل الاستقلالية أقرب منها للخيال من الحقيقة لغياب الاستقلال المالي والإداري للمحاكم بحيث اختزلت السلطة القضائية في المجلس فقط دون المحاكم التي أصبحت غريبة عن السلطة القضائية.
إذا كانت وزارة العدل تعتبر أن الإدارة توضع دستوريا تحت سلطة رئيس الحكومة وأن وضع السياسات الحكومية في جميع المجالات ولو تعلق الأمر بالقضاء تضعها الحكومة وليس المجلس الأعلى للسلطة الحكومية فإننا نعتقد أن هذا الرأي غير مؤسس، فهو حق يراد به باطل، فالدستور-الفصل 90 منه الذي وضع الإدارة رهن إشارة رئيس الحكومة هو نفسه من سن استقلالية هيآت الحكامة الجيدة والتقنين ، ومنحها سلطة تنظيم ووضع السياسات المتعلقة بمجالها، بما تملكه من صلاحية إصدار قرارات تنظيمية،وأخرى غير تنظيمية،في إطار ممارستها لسلطة التنظيم والضبط الاقتصادي والمالي.
وعليه فإن النقاش يظل محسوما حول دستورية منح المجلس الأعلى للسلطة القضائية سلطة الإشراف على الإدارة القضائية للمحاكم بدل وزير العدل،لا سيما أن المجلس الدستوري المغربي نفسه أقر بدستورية اختصاصات هيئات الحكامة الجيدة والتقنين.
وبالنسبة للاستقلال المالي للمحاكم فهو غائب تماما لتبعيتها إداريا وماليا للسلطة التنفيذية ممثلة لوزارة العدل وهو ما يخالف مبدأ استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية طبقا للفصل 107 من الدستور وكذا المعايير الدولية لاستقلالية السلطة القضائية وفقا للمبادئ الأساسية للأمم المتحدة الناصة على أنه من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة،فكيف يمكن تصور سلطة قضائية بدون مقومات الحياة والوجود ،بحيث لا تملك حتى حق اقتناء قلم للمحاكم ؟
– 5- حضور وزير العدل والحريات في المجلس الأعلى للسلطة القضائية ،والانقلاب على الفصل 115 من الدستور ؟
هذا الحضور غيب المعطى الدستوري لاستقلالية السلطة القضائية تصوروا كيف ان الشعب بالإجماع صوت على مقتضى دستوري –الفصل 115-يخرج وزير العدل من تشكلته إيذانا بنهاية وجوده في المشهد القضائي برمته لنفاجئ ان المشروع المصادق عليه من قبل مجلس النواب ولاسيما المادة 54 من مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أعاده من النافدة بعدما خرج من الباب الواسع ليقرر حضوره الدائم في عضوية المجلس بطلب حضوره التلقائي فقط ودون منح المجلس صلاحية الاستجابة من عدمه ،مما يثير عدم دستوريتها ،وما يعكسه الرغبة في هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية بشكل يوضح أننا لم نخرج بعد من رحم قضاء وزارة العدل وتسلطها عليه.
-6- تقديم الوكيل العام للملك بمحكمة النقض تقريرا عن السياسة الجنائية أمام البرلمان، وانتهاك مبدأ استقلالية السلطة القضائية ؟
إن تقديم الوكيل العام للملك بمحكمة النقض تقريرا عن السياسة الجنائية، ومناقشته أمام البرلمان، نعتبره مخالفا للدستور ولا يمكن تقرير قاعدة غير دستورية، لأن السلطة القضائية سلطة مستقلة لا يمكن مراقبتها من طرف البرلمان، 2لأنه دستوريا يراقب فقط السلطة التنفيذية،فضلا عن أن الدستور،ولاسيما أن الفصل 160 منه قطع الشك باليقين بتحديده على سبيل الحصر المؤسسات التي تقدم تقارير أعمالها للبرلمان وهي مؤسسات الحكومة وبعض المؤسسات العامة ،ولا يمكن بداهة لسلطة دستورية أن تقدم تقريرها لسلطة أخرى على قدم المساواة والتوازن معها.
و يجب الإقرار بعدم جدوى وجوب تقديم الوكيل العام للتقرير أمام البرلمان، إذ لا يترتب عنه أي مفعول قانوني ،فاللجن البرلمانية لا تملك اتخاذ أي إجراء بحقه، فضلا عن أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية ،ولا يجوز استبدال هذه الضمانة بما هو أدنى منها باعتباره الممثل الأسمى للأمة ،والحكم بين السلطات ،مما يبرز أزمة عدم دستوريته.
– 7- تقييم وزارة العدل للمسؤولين القضائيين وتبعيتهم لوزارة العدل ؟
نصت المادة 72 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على أنه يراعي المجلس كذلك التقارير التي يعدها وزير العدل على مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير والتسيير الإداري للمحاكم ،مما يعني ضربا لاستقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية قد ينتج عنه مع توالي الأيام تأثير لها على القرار القاضي من خلال منفذ المسؤوليين القضائيين بالمحاكم، كما أن جعل تقييم المسؤولين من طرف وزارة العدل يعزز منافذ التأثير والتحكم على القضاة ويمس باستقلال القضاء والقضاة من خلال بوابة التعليمات والتدخل في القضايا أمام المحاكم ،والمتابعات التأديبية الموجهة، فضلا عن مساسه بالاختصاص الحصري لاختصاص المجلس وتدخلا غير مقبول في مهامه في تناقض تام مع الدستور،وهذه العلة وحدها كافية لهدم مقومات السلطة القضائية التي أصبحت بمقتضى المشروعين تحت وصاية وزارة العدل ،مما يجعل أي حديث عن هذه السلطة القضائية الموعودة وهم كبير لم يتحقق ،لأن التقاطعات مع وزارة العدل تجعل السياسي يتحكم في القضائي ،وفصل السلط وتوازها غائب تماما في المعادلة،فإما استقلالية كاملة طبقا للدستور أو التبعية كما نعيشها الآن،فلا توجد سلطة داخلة في سلطة أخرى،فأخطر ما نواجهه حاليا في المشاريع هو التراجع عن مقتضيات الدستور عوض التنزيل الديمقراطي له وفقا لروحه بتعبير السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض .
8- تقييد النيابة العامة بالأوامر غير القانونية ؟
إن اعتبار النيابة العامة في التنظيم القضائي المغربي هيئة قضائية شأنها شأن القضاء الجالس تسهر على حماية حقوق المجتمع ورعاية الصالح العام وصيانة حقوق وحريات المواطنين وأمنهم القضائي لا ينفي عنها خصوصيتها النابعة من الطابع الإداري والقضائي المزدوج لها بحكم قاعدة التسلسل الرئاسي التي تخضع لها، من هذه الزاوية فإن اعتبارها قضاء التعليمات مسألة قانونية لا جدال فيها، وإذا كان هذا حال النيابة العامة اليوم فإن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 ارتقى بعمل النيابة العامة إلى إضفاء الطابع القضائي عليها وبيان خصوصيته وتحديد نطاق الالتزام بقاعدة التعليمات بحيث نصت الفقرة 2 من الفصل 110 منه على يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون.
كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.لكن مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة عوض أن يحدد مجال التعليمات وحدودها وحماية ممثل النيابة العامة المعترض على التعليمات غير القانونية بحماية استقلاله اعتبر التعليمات أوامر يتعين الالتزام بها، وكأننا إزاء نظام عسكري يعرف نظام الطاعة العمياء مما جرد المقتضى الدستوري من كل فعالية لعدم تقيده بقيدي التعليمات الكتابية وقانونيتها كشرطين لازمين لا غنى لأحدهما عن الآخر في المادة 43 من مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
9- إحداث منصب المستشار المساعد بمحكمة النقض والمساس باستقلالية القضاء
ابتدع مشروع القانون التنظيمي للنظام الاساسي للقضاة أثناء المصادقة على القانون بالجلسة العامة بمجلس النواب مصطلحا جديدا في هيكل بنية التصنيف القضائي يطلق عليه “المستشار المساعد بمحكمة النقض “;فهل انتقلت عدوى مؤسسة القاضي النائب الملغاة الى محكمة النقض;الا يشكل المصطلح المدكور تحقيرا واهانة لهذا الصنف من القضاة ومحاولة للمس باستقلاليتهم واعتبارهم تابعين فقط للمستشارين او رؤساء الغرف ؛وهل سيطمئن المتقاضين لقضاء يوجد في اعلى هرمه اصلي وتابع مساعد ؟
10- عدم إحداث مجلس الدولة خرق للفصل 114 من الدستور وانتهاك للإدارة الملكية ؟
تتجه أنظار الحقوقيين، ولاسيما المهتمين بالقضاء الإداري إلى قبة مجلس المستشارين حيث يوجد أحد أطراف السلطة التشريعية لاختبار وقياس آلام المواطنين وآمالهم ،معاناتهم ومطالبهم الآنية والمستعجلة بإحداث مجلس الدولة يدعم وجود قضاء إداري كفئ وقوي ومستقل عن القضاء العادي ،فهل سينجح مجلس المستشارين فيما أخفق فيه مجلس النواب ، ويوفق في اختياره ؟ ذلك ما سنعرفه في الأيام القادمة.
وهكذا وتفعيلا للفصل 114 من الدستور وتنزيلا لما أكد عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في نص الكلمة السامية والتاريخية بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999 حيث قال حفظه الله إن ” إنشاء مجلس للدولة سيتوج الهرم القضائي والإداري لبلادنا حتى تتسنى مواجهة كل أشكال الشطط، وحتى يتاح ضمان سيادة الشرعية ودعم الإنصاف بين المتقاضين” .
ومما لا شك فيه فإن التفكير الحقوقي الجمعي أضحى متجها نحو المطالبة الملحة بإحداث مجلس للدولة بقصد استكمال الهياكل المؤسساتية لقضاء إداري فعال، وذلك في اتجاه بلورة تصور شامل لمؤسسة قضائية عليا قادرة على تشكيل لبنة أخرى في مسار بناء دولة الحق القائمة على احترام مبدأ المشروعية وسيادة القانون ورفع الشطط بحق المواطنين على نحو يصون الحقوق ويحمي الحريات.
ذلك أن إحداث مؤسسة مجلس الدولة من شأنه أن يسهم لا محالة في استكمال مسلسل إرساء قواعد الشرعية القانونية التي تقوم عليها الدولة الديمقراطية الحداثية من خلال ما ستكرسه من قواعد قضائية في قراراتها كدرجة نقض.
ومما لا شك فيه فإن الإبقاء على الغرفة الإدارية بمحكمة النقض كجهة للطعن في قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية مقترح غير دستوري وغير منصف ويخالف مبادئ الحياد والعدالة التي تقتضي تولي جهة قضائية حيادية لا ينتمي أعضائها أو رؤسائها للمجلس،فكيف ستراقب الغرفة قرارات رئيسها المنتدب ؟ فتحقيق ضمانة مراقبة مشروعية وملائمة القرارات التأديبية بصفة جدية وناجعة يستلزم إحداث مجلس الدولة ،لأن القاضي في حاجة إلى قاضيه الطبيعي وهو القاضي الإداري على مستوى الدرجة العليا لإحقاق الحقوق ورفع المظالم ورد الشطط، لرفع استشعار الحرج عن قضاة النقض وحماية حقوق القضاة في نفس الوقت وبت الطمأنينة والأمان على مصائرهم ،فضلا عن أن المواطن يحتاج لقضاء كفئ مستقل ومحايد يتميز بالتخصص والاحترافية على جميع مستويات التقاضي .
– 11- التقييدات على الأنشطة العلمية للقضاة ؟
نعم، فقد نصت المادة 47 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على أنه لا يجوز للقضاة أن يذكروا صفاتهم في مصنفاتهم العلمية أو الأدبية أو الفنية إلا بإذن من الرئيس المنتدب للمجلس ،كما أن التدريس أو البحث العلمي يتوقف على قرار من الرئيس المنتدب أيضا ،ويمكن للقضاة المشاركة في الأنشطة والندوات العلمية شريطة أن لا يؤثر ذلك على أدائه المهني .
من خلال هذا المقتضى يبرز التعاطي التحجيري مع حق القضاة في التعليم والتكوين والتدريس والبحث العلمي كحقوق مضمونة دستوريا ،فالصفة القضائية لا يمنحها الرئيس المنتدب وإنما ظهير التعيين فضلا عن أن هذه القيود الغرض منها التضييق على القضاة في نشاطهم الجمعوي والمهني وحراكهم الحقوقي والقضائي بمبررات غير مقبولة ،فالأنشطة العلمية تفيد القضاة ولا تؤثر على أدائهم المهني إلا إيجابيا وليس سلبا لأن العلم وسيلة لترقية الفكر والأداء القضائي ولم يكن يوما يتصور إقامة حواجز عليه،كما أن تقييد البحث العلمي بإذن أو رخصة يبدو مثيرا للسخرية لأن التفكير لا يخضع للرقابة ،فعملية التفكير والبحث مضمونة،فشتان بين البحث العلمي كمنهج وفكر ومنشوراته كنتاج وتحصيل العملية الذهنية .
– 12- حظر التعليق على الأحكام القضائية ؟
لقد حظرت المادة 49 من مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة على القضاة إبداء الرأي في أي قضية معروضة على القضاء مما يستشف منه أن القضاة ممنوع عليهم التعليق على الأحكام القضائية لغرض علمي ،والحال أن نطاق الحظر يقتصر على إبداء الرأي في قضية معروضة على القاضي نفسه ،مما يظهر أن نية إقصاء القضاة من المشهد العلمي حاضرة وبقوة،وشبه كره شديد وغير مبرر للبحث العلمي للقضاة ،لأن ارتفاع منسوب الوعي القضائي شكل مصدر إزعاج وقلق بالغين لواضعي المشروعين،فعوض محاصرة الجهل والفساد تم محاصرة فكر التنوير والتخليق،وخنق حرية القضاة في التعبير والتنظيم .
– 13- تقييد حق القضاة في الترقية ؟
المشروع يسجل إلحاق حيف كبير بالقضاة المرتبين حاليا في الدرجة الثالثة الذين جعلهم مشروع النظام الاساسي للقضاة خاضعين لنسق الترقي المنصوص عليه في ظهير 1974 قصد حرمانهم من حقهم في الاستفادة من المقتضيات الجديدة التي تقلص المدة نسبيا ،فضلا عن أنه لا يعقل أن يظل قضاة الدرجة الاستثنائية أكثر من ثلاثين سنة في درجة واحدة مما يضعف الفعالية والتحفيز مما يحتم إحداث درجات جديدة،مع ما صاحب ذلك من استباق الحوار الوطني حول ملف التقاعد بشكل مثير للريبة بإخضاع القضاة كحقل للتجربة لسن 65 سنة،مما سيحول المحاكم من قاعات للجلسات إلى قاعات مآثم وجنازات ،فالمطلوب هو تجديد النخب القضائية لا تأبيد مدة الخدمة القضائية ضدا على صحة وسلامة القضاة نفسيا واجتماعيا وماديا ،وما يتبعه من تأثير على حقوق المواطن المستفيد من الخدمة.
14 -انتداب القضاة والمس بقاعدة عدم جواز نقل القضاة
تفاديا للتأثير في استقلالية القضاة أثناء أدائهم لمهامهم عن طريق آلية النقل، نصت مختلف المواثيق الحقوقية الدولية على ضمانة عدم قابلية القضاة للنقل، ومن ذلك البند الحادي عشر من المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 13/12/1985، وهو ما سار عليه الدستور المغربي من خلال المادة 108، على اعتبار أن الضمانة المذكورة تشكل ركيزة من ركائز السلطة القضائية المستقلة، إلا أن المشروع المعروض على أنظار البرلمان أسس لمنحى مغاير لهذه الضمانة و ذلك من خلال إتاحته للمسؤولين القضائيين صلاحية الانتداب عن طريق نقل القضاة من المحكمة التي يشتغلون بها إلى محاكم أخرى، وهو ما يشكل مسا بالاستقرار الاجتماعي للقاضي، و يتحول في كثير من الأحيان إلى وسيلة لفرض التعليمات و التدخل في مسار القضايا تحت وطأة التهديد بالانتداب، و نفس الأمر ينطبق على مؤسسة النقل التلقائي للقضاة إثر ترقيتهم، لذلك ما فتيء نادي قضاة المغرب يطالب بضرورة وضع ضوابط قانونية ضامنة لاستقلالية القاضي عند ممارسته لمهامه القضائية وذلك بتجنب تضمين مشاريع القوانين لوسائل تتيح المس باستقلال القضاة في عملهم، بعيدا عن التأويل المغلوط الذي يروجه البعض عن مفهوم استقلال القضاة و كأنه دعوة إلى التسيب، إذ بما ذكر من مضامين أعلاه لن يكون هناك سوى تسيب في مواجهة حقوق و حريات المواطنين.
إن سلطة رئيسية ومستقلة بحجم السلطة القضائية كما نظمها دستور 2011، لا يمكن اختزالها في المجلس الأعلى للسلطة القضائية،كما لم يتم التنصيص على إشرافه صراحة وحصريا عن تدبير شؤون المحاكم،مع الاستقلال الاداري والمالي عن وزارة العدل ،فلا يمكن تحقيق أي استقلال في غياب قوانين تنظيمية فاصلة وواضحة تعكس مضامين الدستور الطموح وترسي أسس سلط مفصولة عن بعضها ومستقلة بحيث لا نفوذ لإحداها على الأخرى ولا تداخل في الاختصاصات ،فأملنا أن يتم تدارك المقتضيات غير الدستورية في القوانين التنظيمية المرتقبة لترقى لمستوى تطلعات القضاة وكافة المهتمين خاصة وأن تكريس سلطة قضائية ضعيفة من شأنه افراز نتائج كارثية، مما يستوجب تغليب منطق الحكمة ومصلحة الوطن، والتخلي عن بسط وزارة العدل لنفوذها على مكونات هذه السلطة القضائية.
وإذا كانت هذه هي الخطوط العريضة للإصلاح والتطوير،فإن الوقوف عند هنات وعثرات بعض مضامين مواد مشاريع “السلطة القضائية” من شأنه أن يقوي ويعزز الاستقلالية للقاضي والقضاء عموما ويدعم دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية كهيئة ناظمة للقطاع القضائي بكل تجلياته وأبعاده في اتجاه صيانة استقلال السلطة القضائية وحماية القاضي والسهر على حسن سير العدالة ،وحماية حقوق المتقاضين،وتعزيز الثقة في القضاء وصون الأمن القانوني والقضائي.
ومما لاشك فيه فإن الأمل كبير معقود على مستشاري الأمة لوطنيتهم وصدق طويتهم من خلال دعم الفصل المطلق بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، وتقوية اختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية -لكونه ملك للقضاة ومنهم تشكل ولفائدته يعمل- ،لكن ذلك الأمل وتلك الثقة المنشودة