قصة قصيرة ” الفردوس المفقود ”
استيقظ العربي باكرا صباح يوم الأحد،لم تكن من عادته. حتى أمه العجوزاستغربت الأمر، وهي تحضر له الفطور. كان عليه أن يكون جميلا هذا اليوم. لم يكن مواظبا على الاغتسال في الحمام الشعبي، لكنه اليوم قرر الذهاب. في قاعة الحمام الداخلية شديدة السخونة، وضباب الحرارة المرتفعة يغلف المكان، تمدد العربي على البلاط الزليجي الحامي. ينتظر إبراهيم الكسال ليدعك جسمه بالصابون ويزيل منه آثار الغبار والتعب. أغمض عينيه مستمتعا بحركات إبراهيم الخفيفة المؤلمة. كان سعيدا وهو يسمع مسامات جلده تتنفس، وصوت عظامه وهي تتمدد .”أراك سعيدا اليوم، خوي العربي، هل أنت عريس الليلة؟ ألست مدعوا لحفلتك؟” سأله إبراهيم.. “الله يهديك، آش خصك أ العريان؟”أجاب العربي.. “في حالتك هاته،وأنت عاري،خاصك شي تكسيلة،،هههه”أجاب ابراهيم، ثم أكمل مهمته وانصرف تاركا العربي منتشيا بجسمه النظيف.
كان كأس الشاي في انتظاره عندما خرج ليلبس بذلته الرياضية الجديدة.ناولها له العربي، متمنيا له حظا سعيدا ويوماجميلا. وهو يتذكر كيف ساعده العربي في شراء أضحية العيد،وجمع له ثمن الخروف من أهل الحي،رغم ظروفهم الصعبة.
كانت فاطمة تنتظره في مقهى الحديقة، لم يستطع أن يصف شعوره بعد أن بادرت فاطمة ليلة الجمعة بدعوته لشرب قهوة معها بعيدا عن مكان الشغل. كان متفاجئا وسعيدا. “لن أنسى أبدا أخي العربي، ما قمت به من أجلي، واستماتتك في الدفاع عن شرفي.. الرجال قلالو هاذ الأيام، أصبحوا عملة نادرة.أصبحت ترى الشفار يسرق في واضحة النهار، وسط الناس بدون خوف، ولا أحد يهتم، أغلبهم لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم..الله يصوب وصافي.” قالت فاطمة بمرارة. تكلما في كل شيء، وفي لا شيء،حكت له عن رفض أبيها تزويجها من ابن خالتها النجار، وحكت له عن رغبتها في تبني طفل يؤنسها، حكى لها عن صدمته عندما تخلى عنه النادي الرياضي الذي قدم له كل ما استطاع من وقته وجهده وإخلاصه حتى أنه تخلى عن دراسته ليتفرغ للكرة ويصنع مستقبلا كانت معالمه واضحة. وحينما داسته سيارة شاب مستهتر وكسرت رجله،لم يستطع بعدها دفع ثمن العلاج الترويضي الباهظ، واسترجاع لياقته،لقد استغنى عنه النادي بكل بساطة، وهو الذي كان يرى فيه خليفة للجوهرة السوداء، اللاعب الدولي العربي في زمن الستينيات .
كانت تقنياته عالية ومراوغاته عجيبة لا يضاهيها أحد. انكسرت رجله، وانكسر حلمه ولم يتبق له سوى الغرق في الكحول،حتى ينسى خيبته وما آلت إليه حاله من كُوَيْري يسعى للاحتراف الدولي إلى حارس سيارات. وعوض أن يجري وراء الكرة سعيدا، أصبح يجري وراء اللصوص تعيسا. حكى لها عن الشقراء الفرنسية التي التقاها في صيف مشمس بكورنيش عين الذئاب. دعاها لتناول الكسكوس المغربي ببيته. وكان مزهوا وهو يمشي في الدرب تتعلق به قمر بعيون من السماء. تكلم وتكلم ولم يدر كيف ولم باح لفاطمة بمكنون قلبه وبكل ما يخالجه من خيبة وألم وحلم وأمل. لم ينتبه إلا وفاطمة تقول له:”حسنا، لا يهمك،سأعطيك كل النقود التي تلزمك للسفر إذا كان هذا ما تبتغيه.”.”لكنني لا أستطيع قبول ذلك،كرامتي لا تسمح”أجاب العربي متفاجئا بعرضها.”اعتبره دينا عليك، إذا كان هذا يريحك، أنت بمثابة أخي وعلي مساعدتك، حتى والدتك، سأكون ابنة لها، سأزورها باستمرار، وأقف على كل حاجياتها كأنك موجود.”أضافت فاطمة. وفجأة رأى العربي فاطمة من جديد،كانت جميلة بقلبها الطيب، وروحها الطاهرة،حتى لونها الشاحب اختفى. رأى لمعة في عينيها الحزينتين،وابتسامة مشرقة تنير وجهها النحيف. كانت أجمل مرة يراها فيها،دق قلبه بقوة، وهو يطالع كل حروفها ويقرؤها بتمعن، “كيف لم يلاحظ كل هذا الجمال الأخاذ؟؟” تساءل متحسرا. كانت فاطمة تنظر إليه بإعجاب، سحرتها شهامته ورجولته وصراحته،”هل يبتسم لها القدر ويحيي فيها العربي حلمها بالسعادة والأمومة، أصبح بطلها وفارسها”. انتبهت لسؤاله “إذا سافرت ورجعت وقد تحسنت أحوالي، هل تقبلين بي زوجا؟ سألها العربي بتحفظ. فوجئت بطلبه السريع،وزغرد قلبها فرحا. “سافر، سأكون هنا ولي فيه الخير الله يجيبو”.
بعد أسبوع، كانت فاطمة وحليمة أم العربي تقفان أمام الباب تودعان العربي،”الله يرضي عليك أولدي ويوفقك ويبعد عليك أولاد الحرام”، سأنتظرك قالت فاطمة ودموعها تنهمر بهدوء. لم تعرف كيف تعلقت به بهذه السرعة،هل لطيبة قلبه، أم لحرمان عاشته سنوات. وبمزيج من مشاعر الخوف والحب والسعادة والحزن، قال لامرأتيه “سأعود قريبا منتصرا غنيا،بإذن الله، مع السلامة.
كان عزيز الموتشو في انتظاره مع عشرة أشخاص آخرين، توجهوا إلى القطار، وجهتهم عروس الشمال طنجة،وبوابة الفردوس المفقود. وجدوا محند في انتظارهم، هو المسؤول عنهم بطنجة. أخذهم إلى نزل رخيص وسط المدينة القديمة قرب السوق غير بعيد عن المرسى. طلب منهم أن لا يخرجوا أو يبتعدوا حتى لا يثيروا الشكوك”عيون الشرطة في كل مكان”. كانوا يتكدسون في غرفتين،اثنان وثلاثون شخصًا، بينهم نساء وأطفال على أعتاب المراهقة،منهم من لم يتجاوز ربيع الرابع عشر.”عندما يتم إعلامي بالوقت المناسب للسفر سأخبركم”،قال محند بكل جدية.
كان عليه أن ينسق مع معاونيه بالضفة الأخرى ويرتب للسفر حتى لا تكون هناك مفاجآت غير سارة بانتظارهم في عرض البحر. حيث اليم الهائج العاثر الهادر العابث بحلم شرنقته الضفتان. وبات عاريًا سوى من تراجيديا عبور تنصل إلى كل شيء،حتى صور الحبيبة،الأهل،وصور الأمكنة المخضبة بالأمل،وحتى لا تلتقطهم مصيدة الأمن الساحلي المغربي أو الإسباني، كان عليهم أن يغتالوا أصواتهم ويدفنوا رؤوسهم الحالمة في صمت أسود، سواد هذا المركب الذي استوى مستقيمًا يمزق الموج مثلما تمزقت أحلام هذه الأقدام المبللة… مهمة ليست بالسهلة، ولعبة دولية تحرك خيوطها شبكات مافيات كبيرة تجني ثروات طائلة من تجارة الأقدام المبللة، تجارة البشر….
في الفندق البئيس، وفي الغرفتين البائستين اللتين كانتا تأويان كائنات بئيسة،اجتمع الفقر والبؤس مع الحلم. لم يكن التواصل موجودًا بين الأشخاص، كل في قوقعته، خائفا ينتظر ولا يأتمن لأحد،ربما أحدهم مخبر قد يؤذيه.. غرباء عن بعض جمعتهم يد القدر. بعد خمسة أيام من الانتظار القاتل،حلت ساعة الصفر، وانطلق المركب المتشح بالسوداء للمزيد من التخفي والتمويه، في ليلة سوداء مظلمة لم يطلع فيها القمر،طلب منهم المسؤول عن الموكب أن يلتزموا الصمت بعد أن ناول كل واحد منهم سترة النجاة في حالة الغرق،فكل احتمال وارد..
زادهم أثناء المغامرة، حمص وماء وكسرات من خبز وتمر. كانت وجوههم مكفهرة، تعلوها سحابة من خوف مزدوج، خوف من الغرق، وخوف من انقضاض أمن السواحل عليهم، وخوف من ضياع حلمهم ونقودهم. كلفتهم الرحلة ثلاثة ملايين سنتيم لكل واحد… نظراتهم كانت تائهة، انطفأ فيها بريق الحلم تاركا للخوف مكانه. كانت لتكون لوحة صادمة في تاريخ الفن لو رسمت بريشة فنان. مجموعة من البائسين والبائسات. سلموا أنفسهم للمجهول، يسكنهم خوف الموت ويحذوهم أمل النجاة. انطلق المركب بحمولته البائسة كالمجنون لا يلوي على شيء. كان كل واحد منهم يتلو في نفسه ما تيسر من آيات الذكر الحكيم.”اقرؤوا أية الكرسي”. ارتفع صوت مصطفى الستيني ناصحا،”إنها من الآيات المنجيات، بإذن الله”.
لم يكن يدور في خلد العم مصطفى، حتى ولو في الحلم أن يكون في موقفه هذا ومكانه هذا. وأن يستبدل عن طواعية فراشه الدافئ المريح بنصف مكان بارد مزدحم داخل مركب يئن من ثقل حمولته، يكاد لا يتحملها. ربما أضيف بؤس الركاب إلى وزنهم. لا يدري لم فكر فجأة في النهاية المأساوية لفيلم أمريكي كان قد شاهده، عندما رمى ربان باخرة كانت تحمل عبيدا من إفريقيا متجهة إلى الأرض الجديدة أمريكا، بضاعته في البحر تفاديا لغرق السفينة.ولم يستطع أن ينسى مشهد غرق العشرات منهم وصراخهم المبكي وهم يصارعون الموت. تساءل مفزوعا”هل تكون نهايتهم مشابهة؟ وهل يستقرون في بطن الحوت؟ وهل سيكون من بينهم يونس الذي سيأويه بطن الحوت؟؟.”
كان راضيا بحياته، قنوعا بما قسم الله له. أنعم الله عليه بزوجة طيبة وولد صالح، وحيد،قرة عينه. لكن ابنه أصابته لعنة الهجرة،ولم يدر كيف اقتنع بالسفر ليجرب حظه بعدما سدت في وجهه كل الأبواب، فاعتكف في البيت يعاني من إحباط وفراغ قاتل. أنهى دراسته في العلوم الاقتصادية بنجاح،لكنه لم يستطع ولوج الوظيفة العمومية بعدما أقفلت أبوابها في وجه الشباب المتعلم، ولم ترغب به أي وظيفة أخرى… جلس منتظرا لسنوات فرجا لم يأت ووظيفة عشقها ولم تعشقه، بل أدارت ظهرها عنه ولم تحضر أبدا في الموعد.
سافر سمير ووصل إلى بر الأمان، لكنه لم يجد الأمان. تلقفه الضياع عند وصوله،وعوض أن يشرب الحليب الذي كان قد تعود عليه قبل نومه من يد أمه الحنون،أصبح يشرب كل شي ء إلا الحليب : مخدرات،كحول…. وهو يفترش الكارتون ويلتحف السماء. انضم لطابور الضائعين المشردين، المدمنين بإسبانيا.وكان وقع الخبر على مصطفى وزوجته كالصاعقة. أقض مضجعهم وطرد النوم من عيونهم فهجرتهم الراحة. حتى الأكل أصبح لا طعم ولا لون له. أصبحت لياليهم بكاء ودعاء، وأيامهم ترقب وصلاة. وكان لابد له، بعد أن استخار ربه أن يتخذ قراره الصعب بركب الموج الهادر للبحث عن ابنه سمير واسترجاع ما تبقى منه. يحذوه أمل العثور عليه وإنقاذه من شر نفسه وظروفه.
قد يكون الوطن قاسيا على أبنائه، لكن حضنه يبقى دافئا، وكأب حنون، قلبه يتسع لكل أخطائهم. انتبه مصطفى لخديجة التي التصقت به ترجو الأمان،كان لونها أصفر شاحبًا كمنديلها الذي تغطي به شعرها.نظراتها مرعوبة كانت لا تنفك تسأل نفسها في الثانية ألف مرة،كيف طاوعها قلبها أن تترك صغارها، وترمي نفسها للمجهول؟. لو لم تتخذ قرارها وتتهور لكانت ابنتها نادية الآن تلفح وجهها بأنفاسها الدافئة وتحيطها بذراعيها. كيف تخلت عن جنتها من أجل جحيم لا يطاق؟. ولم لم تشتر لابنها علي مسدسه الذي يحلم به ليدافع عنها ويقتل الأشرار. حلمه أن يكون شرطيا… هل يعلم علي أنها الآن باتت من الأشرار الخارجين عن القانون، تلاحقهم دوريات الأمن؟؟ قد تصيبها رصاصة طائشة، فهل هي فعلا من الأشرار؟؟؟
كان زوجها الكسول المدمن على الحشيش يرفض الشغل أو السفر. ولم يكن لها أن تبيع نفسها لتعيل أسرتها الصغيرة. كانت تطبخ في الأعراس لتؤمن قوت بيتها، وكانت حريصة على إرضاء زوجها بما يرضي الله. حتى رائحة الحنة التي كان يعشقها لم تحرمه منها، كلما ذهبت لعرس إلا وعادت مخضبة اليدين. كانت تأمل أن تنعشه رائحة الحنة، ربما استيقظ من سباته الشتوي والصيفي. وحينما شجعتها إحدى الجارات، باعت كل ما تملك وما لا تملك واستدانت وأخذت قرارها. زوجها لم يمانع، نظر إليها بعيون لا ترى وعقل مغيب، وقال لها “الله يوصلك على خير”وها هي الآن تجلس وسط مجموعة من الرجال، لطالما تجنبت حتى الحديث معهم حتى لا تفهم خطأ،ولا يتحرش بها أحد. هي زوجة عفيفة طاهرة، رغم عيوب زوجها، كانت تقول “ظل راجل ولا ظل حيطة”. ما يريحها الآن أن أولادها عند أمها، لن يجوعوا ولن يبردوا. صرخت سميرة بأعلى صوتها بعد أن صفعتها موجة كبيرة كانت ستطيح بها خارج المركب. أجفلت وتشبثت بذراع رشيد الذي حاول أن يظهر متماسكا أمام هلعها. كان المركب يرقص بجنون على أنغام أمواج عاتية وبحر غاضب. أزعجه هذا الغريب المتطفل الذي ظهر من العتم، وأقلق راحته وسكونه. ارتفعت أصوات البؤساء وهم يستغيثون ويطلبون الرحمة والنجاة من رب العالمين الذي لا تنام عيونه.
حتى رشيد الذي لا يؤمن بالخلود ولا الجنة والنار، غير رأيه وهو يرى نفسه في النار ويحلم بجنة تراءت له بعيدة المنال. رفع أعينه للسماء غاضبا،مستكينا، ودعا من كل قلبه أن يكون الله موجودا لإغاثتهم وإنقاذهم من موت يتربص بهم. وتعهد أمام نفسه، إذا وطأت قدماه اليابسة، سيواظب على الصلاة وشكر الله صباح مساء. كان قد أنهى منذ سنتين دراسته الجامعية بامتياز. كان يحلم بالعدالة وأن يصبح محاميا يشار له بالبنان، ويدافع عن المظلومين، لكن القدر تنكر له، ولم يستطع تحقيق حلمه.”الله ينعل الفقر والحاجة”قال في نفسه. لم يستطع تأمين إقامته بالدار البيضاء ليلتحق بالتدريب عند أستاذه المعجب بذكائه وتفوقه. أبوه من الفقيه بن صالح، مجرد عسكري متقاعد، كان لسنوات على الحدود، يذود عن كرامة الوطن،لكن الوطن تنكر له عندما بلغ منه الكبر،ولم يمنحه سوى ورقات هزيلة لا تغني ولا تسمن من جوع. لا تكفي حتى لشراء دواء السكري والضغط والروماتيزم وفقر الدم…
كان رشيد يحلم بالعدالة وبإنصاف والده. سيعوضه عن تعبه ويشفيه من حسرته وألمه. ولن يتركه يستجدي حقه ولا عطفا من أحد، لكن اليد قصيرة. اشتغل لسنتين في كل شيء مقاه، سينما، كنتربوند، حتى حقد على الأرض التي تحمله،وأمن ثمن عبوره اللا قانوني وهو الذي كان يتغنى بالقانون. توكل على الله وكله أمل النجاح، ليس من حقه أن يفشل، أو يموت، فأبوه العجوز المريض في انتظاره.
كانت سميرة ما تزال تطبق على ذراع رشيد بكلتا يديها، وهو الذي لم يمانع، رق لها قلبه، أشعرته أنه ليس وحيدا.كانت ترتجف كالدجاجة، فتاة في مقتبل العمر. ربما في العشرين من عمرها.جميلة، عيون واسعة وأنف صغير، وشفاه مكتنزة، من الصور الجميلة التي تؤرق أعتى الرجال.”ترى ما الذي رمى بها بين أنياب البحر؟” تساءل رشيد في نفسه،كان عليه أن يخمن،هل هو الحلم الوردي بالاغتناء؟ ولم يدر في خلده مطلقا أن الحب وراء قرارها المجازف وهي التي تخاف من خيالها… إنه حب سكنها،تتنفسه ولا تملك غير ذلك. فؤاد ابن الجيران، كبرا معًا ولعبا معًا، ودرسا معًا، وأحبا بعضهما حتى الثمالة. ثم سافر بوعد شريد أن يعود ويأخذها معه.. لم يعد ولم تسافر. وظلت تنتظره لسنوات، عزاؤها رسالة يتيمة بعثها من ماربييا، يخبرها بقرب الفرج. وفي كل دقة من قلبها، تستعيد آخر مرة جاء يودعها. قال لها كلامًا جميلًا وهو يقرأ شفتيها. انتظريني، لن أغيب أكثر من سنتين، مرت أربع سنوات ولم يف بوعده، وعندما أحرقتها لوعة الشوق والاشتياق، وتعب الصبر من الانتظار، قررت الذهاب إلى حبها المفقود، وقد جمعت له كل الهمسات والقبلات ونسقت منها إكليلًا تهديه له عند اللقاء. حينما كانت تختنق بدونه، كانت فكرة الانتحار تراودها، ثم استبدلت أمل الانتظار بحلم اللقاء تسعى إليه ولو على قارب الموت، وإذا ماتت ستكون شهيدة الحب.
تخلت عن دراستها، واشتغلت بشركات خياطة حتى تؤمن تذكرة العبور. ثم تسللت في سكون الليل، لم تخبر أحدًا من أسرتها. تركت رسالة تقول فيها أنها ستسافر إلى أوربا وتتصل بهم عند الوصول. كانت تحلم بفؤاد، وحضن فؤاد وقبلة فؤاد، وهمسات فؤاد… حين صفعتها موجة أخرى، ارتجف لها قلبها الرهيف، وأعادتها إلى واقع مخيف. “هيا ماذا تنتظرون، أفرغوا القارب بالمجادل وإلا سنغرق جميعا ونصبح في جوف الحوت”صرخ المسؤول غاضبًا. لم تكن تعرف سميرة ما فائدة هذه المجادل حتى نطق المسؤول عن سلامة القارب، وما هي إلا ثوان حتى كان الجميع منهمكا في مهمة مصيرية، حياة أو موت. ظلوا لساعة أو أكثر يسابقون الزمن، ويصارعون غضب البحر الذي لم يرحم دمعة نسائهم ولم يسامح بعد تهورهم، حتى الطفل حسن الذي لم يكمل بعد الأربع عشرة وردة، حاول أن يظهر ما لا يبطن، ويبين عن جلد وإصرار على مقاومة البحر. شابت روحه وهرمت قبل الأوان، كيف لا وقد تحمل ما يعجز عنه الرجال، مسؤولية إخوته الصغار بعد موت أبيه. اشتغل قبل أن يتم سنوات عمره العشر. كانت أيادي معلمه بالكاراج تؤذيه يوميًا بالصفعات واللمسات. لم ينج من عصاه ولا من تحرشه، وعندما سمع بالفردوس والجنة، هرب من الجديدة إلى طنجة، اشتغل بكل المهن، حتى السرقة برع فيها. اشتد عوده، وازداد غضبه من واقع لم يرحمه.حلم بالضفة الأولى وبحياة أفضل لأخوته اليتامى.،تجنبهم ما تعرض له من إهانات وانتهاكات. سينجح ولن يترك إخوته يحتاجون لأي شيء، وسيكملون دراستهم وبنجاحهم ينجح ويرتاح.
لم يسمع بعد عن شبكات المافيا التي تستغل الأطفال في بيع المخدرات، وعن سارقي الأعضاء. لم يعلم بعد أنه ذاهب لعالم أخطر وأقسى. مصيره فيه كريشة في مهب الريح. تعاطف كل الركاب مع حسن وكل الأطفال الآخرين رأوا فيه صورة منهم في صغرهم أو صورة من إخوتهم أو أبنائهم. حتى سكوكو المالي الهارب من إرهاب جماعة بوكو حرام التي ترتكب الحرام يوميا، وتزرع الرعب والتنكيل أينما حلت وارتحلت ذكره بأخيه الصغير من عمره الذي اغتالته يد الحرب الأهلية والإرهاب. كل عائلته الصغيرة والكبيرة أبيدت عن بكرة أبيها. لم يتبق له شيء يربطه بأرضه، حقد على كل شيء وهرب طلبًا للنجاة والحياة. ربما يسعفه الحظ وينتظره الأمان في الضفة الأخرى. تكبد مشاق طريق طويلة، أكثر من خمسة آلاف كلومتر، قطع فيها الغابات وعاش على الفئران والضواري وأوراق الشجر.
عندما كان يحل الظلام كان يخرج من مخبئه ويتسلل من بلد إلى بلد. وحوش الغابة كانت عليه أرحم من بني آدم. عندما وصل طنجة اشتغل بالمرسى يحمل السلع ويقتات من خيرات البحر حتى استرجع قوته وأمن ثمن عبوره. ولأول مرة منذ سنوات من الضياع أحس بانتمائه لركاب القارب. إنهم في هذه اللحظة عائلته، كلهم في مركب واحد، أملهم واحد النجاة والأمان.
صرخت خديجة وهي ترى المركب قد ارتفعت وارتدت بشدة حتى أسقطت أحد الغافلين من الركاب، كان سارحًا بخياله في ذكريات لم يعرف كيف تخلى عنها وعن أماكن محببة إليه. وأشخاص في حياته، كانوا كل حياته.. جرفته المياه بسرعة، علا الصراخ والعويل، واختلط الحابل بالنابل، حاولوا إنقاذه لكنهم أخفقوا… لم يعرفوا له حتى اسمًا ينادونه به ويترحمون عليه. كان صامتا طول الرحلة، وكأنه ينتظر قدره المحتوم. بكاه الجميع،”إنه غريق شهيد” قال مصطفى.”ولا تدري نفس بأي أرض تموت”. ولكنه مات بالبحر،فكر الطفل حسن. وليس بالأرض، قد يكون غرقه رحمة له من أرض لم ترحمه وبحر لم يهدأ حتى بلع واحدا من الركاب وكأنه ينتظر قربانًا.
بعد الحادثة المأساوية، انتبه الجميع وتشبث كل بصاحبه،وسكتوا وكأن على رؤوسهم الطير.ولسان حالهم جميعا يقول “أي قرار متهور هذا؟ ووراء أي حلم وردي نجري؟ إنه كابوس لا يريد أن ينتهي بعد”. كابوس أفرغ كل أرواحهم وأفقدهم الإحساس بالمكان والزمان، وهم الآن مجرد نقطة في جوف بحر يلاعبهم، قد يبتلعهم في أي لحظة يختارها. ما أصغرك أيها الإنسان وما أكبرك يا رب الرحمة يا رب.
توقف المركب فجأة، فجزع الجميع،”لا تخافوا، هناك محرك ثان يفي بالغرض”طمأنهم المسؤول، وهو أكثرهم خوفًا، ليس عليهم بل على حمولته الأخرى، كيلوهات من الحشيش، عليه أن يسلمها في الجازيراس. صفقة إن تمت، تسمن رصيده البنكي وتمكنه من اقتناء مركب ثان لتوسيع تجارته.كان كل مرة ينجو بأعجوبة ولا يتوب عن المغامرة بأرواح الناس والمتاجرة بالمخدرات. “اقتربنا، قال لهم، لا تفرحوا كثيرا، أمامنا ساعة أخرى لنصل، اُدعوا معي أن لا ترصدنا عيون الشرطة الساحلية الإسبانية…
عند وصولنا تفرقوا ولا تثيروا الانتباه. الحريك جريمة، قد تسجنون ويرجعونكم إلى المغرب،ما عدا الصغار يضعونهم في إصلاحيات إلى سن الرشد ويسووا وضعيتهم فيما بعد..، تخلصوا من كل الوثائق الرسمية عند الوصول.” ولم يكادوا يتنفسون الصعداء، حتى لاح لهم في الأفق ضوء ساطع، “إنها لنشات السواحل، ألقوا بأغراضكم حتى تخف حمولة المركب، ويضاعف سرعته” الكل كانت أعصابه مشدودة وهم يقرؤون آية الكرسي، يا مغيث، نادى مصطفى بأعلى صوته. انطلق المركب يسارع الريح، واختفى عن ملاحقة شرطة السواحل..
وأخيرا اليابسة، كانوا على وشك الموت.. تفرق الركاب مثنى وثلاث، خديجة مع سميرة، ورشيد مع محمد من الناضور ركب المخاطر ليلحق بابن عمته الذي حضر بالصيف وأحرق قلب أبناء العائلة غيرة. سيارة جديدة وشابة إسبانية بعيون خضراء وشعر أصفر، وهو الوسيم والأكثر رجولة. بالتأكيد حظه سيكون أفضل، وسترتمي أجمل الفتيات وأغناهن تحت رجليه، يحلم المسكين، قال رشيد في نفسه، لا يدري المصاعب والمشاكل التي تنتظره… أما مصطفى فقد ابتعد مع العربي والطفل حسن، رأى فيه ابنه سمير. سيرعاه ويبحث عن ابنه لربما رجع للمغرب بولدين. تفرق كل الركاب، كل إلى وجهة مجهولة، بخطى حثيثة يسابقون شروق الشمس،حلمهم في تلك اللحظة واحد، البحث عن مكان دافئ والتواري عن الأنظار..
(*) كاتبة مغربية مقيمة بكندا
الدكتولرة زهرة عز