أحداث كطالونيا والتعاون القضائي

إن الأحداث الإرهابية الأخيرة التي ضربت إسبانيا – كطالونيا – و ما تلاها من ردود فعل لدى الفاعلين السياسيين هناك يقتضي من المغرب إعادة النظر في تصوره العام للتعاون الأمني بكافة أشكاله القانونية و القضائية و هي بالتالي مناسبة لملاءمة النصوص القانونية في هذا الصدد مع التحولات العميقة التي طرأت على التنظيم القضائي المغربي و ما يستتبعها بعد تنزيل دستور 2011 , كما أنه مطالب بتنظيم و تنسيق آليات التعاون القضائي بدءا بخلق مديرية مستقلة لدى وزارة العدل تعنى بذلك عوض تقاسمه بين أربع مديريات *1 تستأثر فيه مديرية الشؤون الجنائية بحصة الأسد و النزر القليل للشؤون المدنية , كما أن على المجلس الأعلى للسلطة القضائية في قوانينه الداخلية أن يولي اللجنة المكلفة بالتعاون الدولي الأهمية التي تستحقها و نفس الشيء بالنسبة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض .
إن المتتبع للتعاون القضائي و القانوني المغربي الاسباني سيصل إلى قناعة مفادها أن الاتفاقيات المبرمة بين البلدين في هذا الصدد *2 أصبحت متجاوزة و لا تساير البتة التحولات التي طرأت في المحيط الدولي للبلدين ودخلت في دوامة الروتين الإداري الذي تحركه بعض القضايا الظرفية التي تثور بين الفينة و الأخرى , و ترتب عن ذلك اختزال التعاون القضائي فيما هو جنائي محض و همشت المجالات الأخرى.
إن التعاون القضائي والقانوني هو وحدة غير قابلة للتجزئة, لا فرق فيه بين ما هو مدني و ما هو جنائي من حيث الأهمية , لان التجربة أثبتت في المجال العملي طغيان الجانب الجنائي عما سواه نظرا للوقع القوي الدي تخلفه الجريمة و هي ممارسة من شانها الإخلال بالتوازن القانوني و بالتبعية المس بالأمن القضائي و القانوني , ذلك أن الجريمة تتغذى من الفشل الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و أن استقطاب جيوش الجريمة المنظمة يجد ضالته في المجتمعات المهمشة و الهشة , و بالتالي فإن التعاون القضائي المغربي الاسباني و دون أن يميز من حيث الأهمية بين ما هو جنائي و ما هو مدني عليه أن يأخذ بعين الاعتبار الجوانب التالية :
في المجال الجنائي
مما لا شك فيه أن عصب التعاون الجنائي هو تبادل المعلومات و أن طغيان أنانية الدول بتشبثها بالمبدأ التقليدي للسيادة الوطنية، واستئثارها بالمعلومة يشكلان عائقا أمام تعاون قضائي فعال. فتبادل المعلومات تحفه مشاكل عميقة يمكن إجمالها في نقص الثقة بين الدول أو سعي طرف ما إلى معرفة مصدر المعلومة أو رفض إعطاء معلومة منتجة بمبرر احترام الحرية الشخصية للأفراد كطلب معرفة محيط المجرم وأصدقائه و غير ذلك… بل إن الخلل قد يطال الأجهزة الأمنية فيما بينها في البلد الواحد و هو ما تم تسجيله من خلال النقاش الدي حصل بين الفاعلين السياسيين الأسبان في أعقاب الأحداث الإرهابية و المتمثل في التصريحات المتضاربة الصادرة عن بعض المسؤولين وبعض الهيئات من قبيل :
مداخلة المستشار في الداخلية الكطلاني خواكيم فورن Joaquim Forn الذي ميز فيه ضحايا لارامبلا بين الكطالان و الأسبان *3
البلاغ المشترك للنقابتين الرئيسيتين للشرطة الوطنية و الحرس المدني الدي شجبا فيه إقصاءهم خلال التحقيقات وتم منع Tedax التابعة للحرس المدني من قبل الشرطة المحلية Mossos de Escuadra دخول شقة الكنار التي كان يسكنها الإمام السطي في 16.08.2017 . *4
إفتتاحية إلموندو El mundo في 2017.08.23 في الصفحة 3 تحت عنوان فشل نظام تستفيد منه الجهادية Fallos de sistema de los que aprovechan el yihadismo
تصريح السيد وزير الداخلية Juan Ignacio Zoido في ندوة صحفية في أعقاب اجتماعه مع رئيس الجامعة الإسبانية للبلديات و الجهات و الدي أكد فيه على وجود التنسيق بين المكونات الأمنية و أنه الشاهد على ذلك .
هذه التصريحات المتضاربة هي نتاج لنزعات انفصالية في بعض الجهات ومن شأنها أن لا تساعد على تحقيق نجاعة في تبادل المعلومات أمام تواجد ثلاث أنواع من الشرطة لها استقلال ذاتي عن بعضها في مجموع تراب الجماعة المستقلة ذاتيا و يطبع عملهم تنافس قوي مع الشرطة الوطنية Policia Nacional و الحرس المدني Guardia civil التي تمثل السلطة المركزية .ففي كطالونية نجد Mosso d’escuadra و في نافار نجد   Policia foral و في ألباسك نجد Ertzainza LA , فهذا الواقع يتعين طرحه حتى يتأتى تجاوزه عن طريق الحوار الصريح و التعامل معه بواقعية و بشجاعة . و لعل أهم خطوة يتعين إعمالها هي إيجاد أرضية قانونية واضحة تتساوى فيها الحقوق و الالتزامات بين الطرفين و تأخذ بعين الاعتبار خصوصية التنوع و التعدد الأمني الموجود في إسبانيا و كذا استحضار الوضعية الخاصة التي يتمتع بها المغرب مع أوربا ” أكثر من شريك و اقل من عضو ” أي ان تنعكس هده الوضعية القانونية على التعامل الأمني و تمنح المغرب الأحقية في الولوج إلى المعلومة بطريقة سلسة لدى الهيئات الأمنية الأوربية كالأوروبول و الأوروجست و غيرهما من الهيئات بدون تعقيدات أو شكليات معينة .
و لا يفوتني في هدا الصدد إلا التنويه بتجربة الاتفاقية الرباعية المبرمة سنة 2007 و التي استطاعت تحقيق الأهداف المسطرة لها ونجحت في تخطي الصعاب و المعوقات التي عجز التعاون التقليدي على تخطيها بفضل تخصص النيابات العامة بكل من الرباط، باريس، مدريد وبروكسيل وطنيا للبحث والمتابعة في قضايا الإرهاب و سهل عملية الاشتغال والتنسيق بين الأطراف و كدا بإحداثها خلية عمل مشتركة لتبادل المعلومات الميدانية renseignements opérationnelles في وقت مناسب حول التحريات والأبحاث المنجزة في مجال مكافحة الإرهاب، إذا كان من شأنها أن يكون لها امتداد في إحدى الدول الأطراف (الفصل 1 من الاتفاقية).وهي مقتضيات تجد أساسها في المادة 3 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية .
في المجال المدني

إن التركيز على الجانب الجنائي و إهمال المجالات الأخرى هي نظرة قاصرة ,لأن المعالجة الاستباقية للجريمة المنظمة تبدأ أولا بتجفيف منابع استقطاب جيوش الإرهاب التي تتغذى من الفقر و الحاجة , و لن يتأتى ذلك إلا بخلق إستراتيجية كفيلة بالقضاء على الفقر بعيدا عن المساعدات التي تساهم في تعميق الهوة بين الشمال و الجنوب وفي هذا الصدد يتعين ترتيب إيلاء التعاون في مجال الاستثمار و الاقتصاد أهمية خاصة وتعميق التعاون في المجال الأسري , فقد لمسنا إشادة بالمستوى الرفيع الدي وصلت إليه مدونة الأسرة في العالم , إلا أن هده الإشادة لم تتم ترجمتها على ارض الواقع من قبل العالمين الأوربي و الأمريكي و هو ما تمت ملاحظته عندما ضربت الأزمة أوصال الاقتصاد العالمي .لأن الاهتمام بالأسرة نواة المجتمع تمر إيلاء حقوق الطفل الأهمية التي يستحقها لدى الجانبين باعتباره رافعة لكل تنمية اجتماعية و خيارا استراتيجيا من شانه التأثير على البرامج الاقتصادية و الاجتماعية الوطنية منها و الدولية , و لعل ما أفرزته الأزمة الاقتصادية الأخيرة في بعض الدول الأوربية خير شاهد على هشاشة الطفل الدي تأثر بشكل كبير بتداعيات الأزمة , حيث تزايد عدد الأطفال القاصرين الدين انتزعوا من أسرهم التي تعيش أوضاعا صعبة و تعاني من مشاكل أسرية و تم تسليمهم إلى اسر أو مراكز خيرية بعد استنفاد مساطر استعجاليه بحجة اتخاذ إجراءات وقائية لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المشكل و القوانين المفترض تطبيقها لان القول باتخاذ إجراءات وقائية لانقاد طفل من حر الشمس أو برودة الطقس فترة مؤقتة لا يمكن أن تتعدى في أقصى الحالات سن الرشد القانوني دون تهيئه هو بمثابة إعداد قنبلة موقوتة ينتظر سماع دويها .
و دونما إطناب يتعين التصدي لكافة المشاكل و التعامل معها إسوة بالجريمة , فالفقر جريمة و الجهل جريمة و الفساد جريمة و لا مجال للتمييز بين السياسة الأمنية و السياسة الاجتماعية . بل حتى في المشاكل الاجتماعية تطفو على السطح بعض القضايا التي خلقت الحدث بين المغرب و إسبانيا و خلقت نقاشا كبيرا أطرته الصحافة و المجتمع المدني و تم التوصل إلى حل سياسي لم يرق إلى معالجة لب المشكل نخص بالذكر “مشكل الكفالة ” .
لم يتطرق الإصلاح القضائي إلى موضوع التعاون القضائي , و كان أولى به أن يتناول الموضوع كأولوية باعتبار أن الدستور المغربي نص في ديباجته على توسيع روابط التعاون والتقارب و الشراكة مع بلدان الجوار الاورومتوسطي وتوسيع وتنويع علاقات الصداقة والمبادلات الإنسانية و الاقتصادية و العلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم ,و جعل الاتفاقيات الدولية المصادق عليها تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية فإعداد الاتفاقيات و السهر على حسن تطبيقها أمران لا يمكن فصلهما عن بعضهما و بالتالي يجب إشراك كافة الأطراف المعنية مع وزارة العدل , كوزارة الخارجية و التعاون الدولي ,وزارة الداخلية , الوزارة المكلفة بالمغاربة في الخارج و غيرها في احترام تام لواقع التشريع المغربي و ثوابته و صونا لمصالحه و تكريسا لدولة القانون .
بتاريخ 5 شتنبر 2017
*1 ( مديرية الشؤون الجنائية ,مديرية الشؤون المدنية ,مديرية التشريع و مديرية التحديث )
*2(الاتفاقيات القضائية للتعاون في الميدان المدني و مادة الحضانة و إرجاع الأطفال و في الميدان الجنائي و تسليم المجرمين و نقل المحكوم عليهم و قد ألغيت هذه الأخيرة و عوضت باتفاقية المساعدة القضائية في الميدان الجنائي الموقعة في 24 يونيه 2009 )
3* ( El Pais Editorial p14 بتاريخ 17.08.2017 ) .
4* El pais 2017.08.23 p 15 ))

الاستاذ حسن مزوزي باحث محامي بهيئة القنيطرة