يعرف الاجتهاد القضائي بكونه مجموعة المبادئ المكرسة من قبل الأحكام والمقررات القضائية والتي تتضمن تفسيرا لقاعدة تشريعية موجودة أو وضع قواعد لحكم حالة قانونية تعيش فراغ قانوني .
ويتميز الاجتهاد القضائي بكونه يضمن استمرارية القواعد التشريعية، من خلال ملاءمتها مع الوقائع و النوازل،فالتشريع بما يتميز به من عمومية وتجريد لا يخصص حلولا فردية لكل النزاعات، و هذا ما يجعل من الاجتهاد القضائي مصدرا مستقلا ومساويا لباقي مصادر القانون، فهو يخصص القاعدة القانونية، ويقوم بتحيينها، إذ بدونه لا يتمكن التشريع من التوفيق بين خاصيتي الاستقرار والاستمرارية1.
إن الاجتهاد القضائي يؤمن للتشريع ملاحقة تطورات المجتمع من خلال تطبيق النصوص القديمة بروح جديدة، وفق ما عبر عنه الفقه الألماني بالاجتهاد القضائي التطوري،كما أنه يساهم في تفسير النصوص الغامضة و يكمل الناقص منها فيصير الاجتهاد القضائي مصدرا مباشرا للقانون.
المطلب الأول :مداخل التأثير والتأثر في العلاقة بين القاضي والمشرع
إن ارتباط القانون الجنائي بواقعة الجريمة يجعل مداخل التأثير والتأثر في العلاقة بين القاضي والمشرع كثيرة تعكس علاقة ربط حركية التشريع بالاجتهاد القضائي
الفقرة الأولى:مداخل تأثير القاضي على المشرع
تتمثل هذه المداخل في العناصر التالية :
-الاجتهاد القضائي مصدر من مصادر التشريع
-قاعدة التفسير الضيق للنصوص الجنائية لم تمنع من دفع
-حركية اجتهاد القاضي نحو ملائمة النصوص للواقع ومسايرة -واقع الجريمة وآفاقها لاسيما وأن تدخل المشرع في هذا المجال يتسم بالبطئ النسبي
-القاضي ينقل النصوص من واقع الجمود إلى واقع الحركة
-كشف سلبيات النصوص الجنائية وعجزها عن مسايرة الواقع المستجد للجريمة وتطورها
-النص الجنائي عاجز كلية عن مكافحة صنف معين من الوقائع غير المجرمة
-تفسير النص الجنائي سمح بإدخال بعض الوقائع لدائرة التجريم
الفقرة الثانية :تأثر المشرع بالاجتهاد القضائي
يتمثل مضمون التأثير الذي يمارسه التشريع على الاجتهاد القضائي في :
1-التأثير الإيجابي :
-سن نصوص قانونية جنائية تتبنى تفسيرات ومواقف اجتهادات القضاء الجنائي ،أي نقل النص من دائرة التفسير القضائي إلى دائرة التنصيص التشريعي
-سن نصوص قانونية جنائية تتبنى الاجتهاد القضاء الجنائي من زاوية ضبط مدلولات الجريمة وأركانها والتنبيه إلى اختلالات النص العاجزة قانونا واجتهادا عن الانطباق على الواقعة القانونية محل المتابعة.
-2-التأثير السلبي :التصحيح التشريعي
يعكس التصحيح التشريعي نوعا من الارتداد التشريعي على الاجتهاد القضائي بغرض التراجع عنه للتأثير على حماية القاضي للحقوق والحريات ،وهذا المسلك التشريعي يعد منتقدا وتجنيا على وظيفة القضاء وعلى وظيفة المشرع ،وكثيرا ما تصدت المحاكم الدستورية المقارنة لمثل هذا الدور السلبي التشريعي .
الفقرة الثالثة :نطاق الاجتهاد القضائي
إذا كان الاجتهاد القضائي يعد مصدرا من مصدر التشريع فإنه في المادة الجنائية تحكمه ضوابط قانونية تستهدف حماية الأمن القضائي من خلال :
-عدم تجريم وقائع لا تطالها نصوص التجريم
-عدم رجعية القانون الجنائي
-التفسير الضيق للنصوص الجنائية:عدم جواز استعمال القياس ،محكمة النقض الفرنسية قرار29/6/2005
-رفع التجريم عن أفعال معينة يوجب التصريح ببراءة المتابعين من أجلها
-زوال النصوص الجنائية المؤقتة بمضي أجلها
-سقوط الدعاوى العمومية يوجب التصريح بالسقوط
-التنازل أو الصلح يضع حدا للمتابعة وتنفيذ العقوبة
-ان التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه)
الفقرة الرابعة:الرأي المناهض لاجتهاد القاضي
لم يكن الاجتهاد القضائي مرحبا به دائما لسيطرة منهج الشرح على المتون في الوسطين الفقهي والقضائي ،وندلل على ذلك من المصادر التاريخية ،بحيث أن مفكري الثورة الفرنسية الذين ألهموا التنظيم الحديث لمؤسسات الدولة، دعوا إلى إلغاء كل دور للاجتهاد القضائي في إنتاج القاعدة القانونية، وبضرورة قصر عمل القاضي على تطبيق مقتضيات التشريع بصورة آلية. وهكذا جاء في كتاب «روح القوانين» لمونتيسكيو قوله: «إن قضاة الوطن ليسوا سوى الفم الذي ينطق بكلمات التشريع، فهم أشخاص لا يمكنهم التخفيف من قوة أو صرامة القانون»، وقد ذهب روبيسبير أبعد من ذلك بتصريحه في البرلمان سنة 1790 «إن كلمة اجتهاد يجب أن تمحى في لغتنا، ففي دولة لها دستور وتشريع فإن اجتهاد المحاكم ما هو إلا قانون».
الفقرة الخامسة:نطاق التفسير المشروع للنصوص الجنائية وفقا للاجتهاد القضائي
إذا كان الاجتهاد القضائي في المادة الجنائية من الناحية القانونية والنصية يحكمه مبدأ التفسير الضيق ،فإنه من الناحية العملية فإن دور القاضي الجنائي كما هو معاين من خلال بحث صيرورة تطوره لا يقل أهمية عن دور القاضي المدني في الاجتهاد والإبداع وتحقيق الحماية المطلوبة .
وهكذا فإن اجتهاد القاضي الجنائي تؤطره الضوابط التالية :
-ضرورة إعطاء النص الجنائي كل الأبعاد التي أرادها المشرع عند وضع النص إذا كان قد شمله تطور تقني
-ضبط النص مع حاجة السياسة الجنائية انطلاقا من التطور والتقدم التقني ”
-مقبولية التفسير الواسع المطابق لإرادة المشرع ،وهي تخرج عن التفسيرات الواسعة والتي تخرج بالنص عن إرادة المشرع
-غموض النص :
-الغموض البسيط :من واجب القاضي الجنائي رفعه عندما يكون النص مصاغا بطريقة خاطئة أو غير صحيحة فتؤثر على المعنى بصورة جدرية
-الغموض الكبير:ويكون في حالة غياب تحديد واضح للنص أو في حالة استعمال عبارات أو كلمات لها مدلولات واسعة وتحتمل قراءات متعددة ،هنا يتوجب على القاضي الاجتهاد في إدراك إرادة المشرع ولا يمكنه التحجج بالتفسير الضيق للنصوص الجنائية،لأنه ملزم بالفصل فيها بالاستعانة بالأعمال التحضيرية أو بالاعتماد على المبادئ والأصول العامة للقانون أو المحيط الاجتماعي العام ،وغالبا ما يتجه القاضي نحو الحكم بالبراءة تمسكا بالتفسير الضيق
الفقرة السادسة -التغير الدستوري في مفهوم الوظيفة القضائية،القاضي الجنائي والدستور
الملاحظ أنه لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية عرف الدستور المغربي لسنة 2011 وظيفة أو رسالة القاضي وذلك بمقتضى الفصل 117 الذي ينص على أن ”يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون“.
وقد أوجب المشرع الدستوري على القضاة الالتزام بتطبيق القانون بصفة عادلة وهذا ما يؤكده الفصل 110 من الدستور والذي جاء فيه بأنه “لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون.
ويعتبر الدفاع عن الحقوق والحريات وحمايتها من كل الانتهاكات والتجاوزات التي تمس بها، من أهم الأدوار التي أصبحت تضطلع بها المحاكم
فالقاضي الجنائي ملزم بتفسير النصوص الجنائية على ضوء المقتضيات الدستورية ،لأنه لا يجوز تطبيق أي نص يخالف الدستور ،مع مراعاة مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية
المبحث الثاني :مجالات تأثير القضاء على التشريع الجنائي
إن تفحص مسودة القانون الجنائي يثبت بشكل ملموس مجالات تأثير القضاء على التشريع الجنائي،والتي لم تحظى بالعناية والإشادة على الأقل من خلال إبرازه كمصدر مادي للمسودة المذكورة،وهو ما أكدته وزارة العدل في تغييبها للاجتهاد القضائي الجنائي كعنصر حاسم وفاعل في تغيير المنظومة الجنائية والرقي بها إلى آفاق رحبة ومتطورة استجابة لمطلب تكييف العمل القضائي مع الوقائع والتطورات الحديثة والمستجدة.
المطلب الأول :جريمة انتزاع عقار من حيازة الغير
أدخلت المادة 570 من مسودة القانون الجنائي ضمن عناصر الجريمة إلى جانب العنف والخلسة والتدليس القيام بأي عمل يحد من الانتفاع بالحيازة تماشيا مع اجتهادات محكمة النقض
وهكذا جاء في قرار له أن”المنع من الحرث يشكل وجها من أوجه العنف الهادف إلى الحرمان من استغلال العقار وبالتالي يشكل انتزاعا للحيازة “2.
وفي قرار آخر أكد ذات القاعدة معتبرا أن المنع من التصرف والاستغلال يشكل انتزاعا للحيازة –نعم 3
وصلة بالموضوع وترتيبا عليه اعتبرت محكمة النقض ان إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه في جريمة انتزاع عقار من حيازة الغيريدخل ضمن مواضيع الرد ،وهو ما تبنته المادة 107-1 من المسودة بنصها على أنه “تحكم المحكمة بناء على طلب الضحية في جرائم انتزاع العقار من حيازة الغير بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه ”
فهذه المادة تصحح عمليا الخلل الذي كان يعتري المادة 107 من القانون الجنائي بشأن ماهية الرد وهل يشمل العقار ،وهو ما كان الاجتهاد القضائي سباقا إلى تبنيه.
فإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه يدخل في إطار التدابير الاحتياطية ويكون مرتبطا بالجريمة المدان بها الطاعن وليس له علاقة بالدعوى المدنية التابعة4.
المطلب الثاني :تحقير مقرر قضائي
تدخل مشرع مسودة القانون الجنائي لتجريم عدم تنفيذ الأحكام أو التسبب في التأخير في تنفيذها -المادة 308-كخطوة هامة ورائدة في تفعيل مبدأ تنفيذ الأحكام المكرس دستوريا ،واستجابة لما أفرزه الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض في عجز وقصور جريمة تحقير مقرر قضائي عن فرض احترام وتنفيذ الأحكام والمقررات القضائية بتأكيدها ”أن جريمة تحقير مقررات قضائية كما هو منصوص عليها في الفصل 266 من القانون الجنائي لا تقوم بمجرد الامتناع عن تنفيذ حكم بل يجب أن تصدر من الجاني أقوال أو أفعال من شأنها المساس بحرمة القضاء “. 5
فعدم التنفيذ أو التأخير فيه يلحق ضررا جسيما بالمحكوم له، ويؤثر بالتالي على مصداقية الأحكام وعلى ثقة المواطنين في القضاء.
وتكمن أهمية تنفيذ الأحكام القضائية في كونها أسمى تعبير من كل الأطراف المعنية عن تمجيد القضاء وتكريم السلطة القضائية، وفي ذات الوقت اعترافا بحقوق المواطنين واحتراما وتكريسا لحقوق الإنسان، ، طبقا لما أكده عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خلال ترأسه لافتتاح أشغال دورة المجلس الأعلى للقضاء يوم 15 دجنبر 1999حيث أكد حفظه الله أنه : ” … من البديهي أنه لن يحقق القضاء هذا المبتغى إلا إذا ضمنا لهيئته الحرمة اللازمة والفعالية الضرورية بجعل أحكامه الصادرة باسمنا تستهدف الإنصاف وفورية البت والتنفيذ، وجريان مفعولها على من يعنيهم الأمر”.
وقد تطور مبدأ تنفيذ الأحكام إلى أن صار مبدأ دستوريا كرسه الفصل 126 من دستور المملكة بتنصيصيه على ما مؤداه: “يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء”
المطلب الثالث :إيقاف تنفيذ العقوبة الجنائية
تنص الفقرة الثانية من المادة 55 من المسودة على أنه “في حالة الحكم بعقوبة سجنية لا تتجاوز عشر سنوات مقرونة بغرامة أو بدونها ،إذ لم يكن قد سبق الحكم بعقوبة من أجل جناية أو جنحة،يجوز للمحكمة أن تأمر بإيقاف تنفيذ تلك العقوبة جزئيا ،دون أن تنزل عن نصف العقوبة المحكوم بها ،على أن تعلل ذلك “.
هذه المادة كان مصدرها الاجتهاد القضائي ،بحيث درجت غرف الجنايات الابتدائية والاستئنافية بمختلف محاكم الاستئناف بالمملكة على إيقاف تنفيذ العقوبة الجنائية بالرغم من أن موقف محكمة النقض كان مخالفا لهذا الاتجاه ”يستفاد من الفصل 55 من ق.ج أن إيقاف التنفيذ غير جائز في حالة الحكم بعقوبة السجن ،وأن المحكمة لما قضت بإيقاف تنفيذ عقوبة السجن التي قضت بها على المتهم في النازلة تكون قد خرقت الفصل المذكور ”،وهو ما جعل مشرع المسودة يحسم المسألة بنص قانوني صريح يستجيب لرغبة محاكم الموضوع في ضمان مبدأ عدالة ومعقولية العقوبة.6
المطلب الرابع :الاختطاف المجرد
تنص المادة 436 من المسودة ”يعاقب بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وغرامة من 5000 درهم إلى 50.000.00درهم كل من قام باختطاف شخص أو احتجازه أو أي تصرف أدى إلى سلب الحرية الشخصية دون أمر من السلطات المختصة ”
فهذه المادة استجابت لما قرره الاجتهاد القضائي الذي كان يعتبر الفعل مجرد جنحة استنادا للفظة الحبس ولو كانت العقوبة تفوق خمس سنوات
وهكذا قررت محكمة النقض أن جريمة الاختطاف مجردا وإن تجاوزت العقوبة الناجمة عنها في حدها الأقصى خمس سنوات تعتبر مجرد جنحة تجري عليها أحكام الجنحة التأديبية 7
قرار محكمة النقض عدد 5508 صادر بتاريخ 25/6/1992في الملف الجنحي عدد 27452/91 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 47 ص 216.
المطلب الخامس:هتك عرض قاصر
إن عنصر الرضا منتف متى كانت الضحية في جناية هتك عرض قاصرة لكون القضاء قرر أن عنصر العنف مفترض لغياب الرضاء وبالتالي استحالة توصيف الفعل جنحة ،مما فرض تدخل مشرع المسودة بجعله الفعل جناية في جميع الأحوال سواء بعنف أو بدونه، لكنه للأسف حافظ على التمييز بين هتك العرض بالعنف أو بدونه.
المطلب السادس :التجنيح التشريعي جناية السرقة الموصوفة
نصت المادة 510-1 من المسودة على أن السرقات المنصوص عليها في المواد 507 و 508 و 509 و 510 من هذا القانون ،يعاقب عليها بالعقوبات المنصوص عليها في الفصل 505 من هذا القانون إذا كانت قيمة المسروق زهيدة
فالمشروع استجاب لما اقتضته واقع الممارسة اليومية لاجتهادات النيابات العامة والاجتهاد القضائي للمحاكم في تجنيح جرائم السرقة إذا كانت قيمة المسروق زهيدة.
المطلب السابع :التشويه الخلقي وعاهة مستديمة
اعتبر الاجتهاد القضائي المغربي التشويه الخلقي يأخذ حكم العاهة المستديمة وسايرته مسودة القانون الجنائي في ذلك بتنصيصها في المادة 402 من مسودة مشروع القانون الجنائي :يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من 5000 إلى 20000 درهم إذا كان الحرمان من المنفعة جزئيا .
المحكمة لما عللت قرارها بكون الفصل 402 من ق.ج لم يعرف العاهة الدائمة وإنما اكتفى بإعطاء أمثلة عنها اعتبرت البتر الجزئي لصوان أذن الضحية يشكل جناية عاهة مستديمة لما يلحقه من تشويه في الخلقة بكيفية مستمرة تكون قد بنت قرارها على أساي قانون سليم ”8.
وفي قرار آخر اعتبر “تقرير ما إذا كان فقدان أسباب طبيعية وتعويضها بأسنان صناعية يشكل عاهة مستديمة أم لا يقتضي إجراء خبرة طبية نعم
اكتفاء المحكمة بالإدانة من اجل الضرب والجرح بواسطة السلاح المؤديين إلى عاهة مستديمة على مستوى العين دون بيان نوع العاهة المستديمة يجعل القرار معرضا للنقض-نعم-9
المطلب الثامن :حمل الغير على التوقف الجماعي عن العمل
قرر الاجتهاد القضائي أن تجريم التوقف الجماعي عن العمل لا يجب أن يمس بالحق في الإضراب كحق دستوري تقره سائر المواثيق الدولية ،لكن المسودة لم تقدم إجابات عن هذا الخرق ،وهذا العيب الدستوري ،بمحافظتها على نفس صيغة المادة 288 بدون تعديل” يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وغرامة من 2000 درهم إلى 20000درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من استعمل الإيذاء أو العنف أو التهديد أو وسائل التدليس لحمل أشخاص على التوقف الجماعي عن العمل أو على الاستمرار فيه أو حاول ذلك متى كان الغرض منه هو الإجبار على رفع الأجور أو خفضها أو الإضرار بحرية الصناعة أو العمل ”
وهكذا اعتبر القضاء أن الاتفاق على الإضراب أو التحريض عليه أو العمل على ترويجه أمر يقره القانون دستوريا من حيث المبدأ غير أن المشرع أحاطه بقيود تفرض حمايته وإلا استحال إلى البلبلة .لابد أن توضح المحكمة في معرض تعليل حكمها بالإدانة من أجل جريمة عرقلة حرية العمل معنى التهديد ووسيلته للتأكد من مدى تأثيره على استمرارية حرية العمل،خاصة وأن العنف أو الإيذاء هما الوسيلتان الواضحتان عادة في مثل هذه النازلة وصلتهما بحدوث الخرق“.10وواضح من هذا القرار استغراب القضاء من ورود التهديد وبالأصح التدليس ضمن عناصر التجريم،لأنه لا يتصور عقلا ولا منطقا وجود تدليس على الأجراء لأنهم راشدين ويفترض أنهم مؤطرين نقابيا .
المطلب التاسع:الجريمة التشرد
حذفت المسودة المادة المعرفة والمجرمة للتشرد –الفصل 239 من ق.ج استجابة لما قرره القضاء من خلال تأكيده بأنه “لا وجه للمتابعة بالتشرد بالنسبة لقاصر لا يكلف بالإنفاق على نفسه أو إيجاد شغل أو سكن يقيم به –نعم
القيام بشؤون الطفل من واجبات ذويه أو المؤسسات الاجتماعية أو الخيرية تحت ضمان ومسؤولية الدولة طبقا لمقتضيات المادة 54 من مدونة الأسرة11
المطلب العاشر :الجرائم المرتبطة بحماية الأسرة
الفقرة الأولى:مفهوم النفقة
يعاقب من يمتنع عن أداء النفقة المحكوم بها جنحيا طبقا للفصل 480 من ق.ج –نفس المادة حافظت على صيغة العموم في النفقة كما أكده الاجتهاد القضائي بتقريره أن مفهوم النفقة مفهوم عام ،ويشمل مستحقات الزوجة حسب الفصل 84 من مدونة الأسرة وهي الصداق المؤخر إن وجد ،ونفقة العدة والمتعة وغيرها.
يتعرض للنقض القرار الاستنئافي الذي قضى بعدم قبول المتابعة بدعوى أن المستحقات المترتبة عن الطلاق لا يشملها مفهوم النفقة الوارد في للفصل 480 من ق.ج 12
الفرقة الثانية :الإمساك عن دفع النفقة بدون سبب مشروع
حافظت المادة 480 من المسودة على مبدأ القصد الإرادي في ارتكاب الجريمة من خلال استبدال مصطلح العمد بغياب المبرر المشروع وفقا لما أقره الاجتهاد القضائي
“إن اعتراف الظنين قضائيا بأنه عاجز عن أداء النفقة المحكوم بها لا يكفي لتكوين عناصر جريمة إهمال الأسرة ما لم تبرز المحكمة القصد الإرادي المتمثل في الامتناع عمدا13
الفقرة الثالثة:الإخلال بالواجبات الزوجية
نبه الاجتهاد القضائي المشرع إلى أن مجرد الإخلال بالواجبات الزوجية لا يعد جريمة ،مما استلزم التدخل لمواجهة الجريمة بتنصيص المادة 479من المسودة على انه يعاقب أحد الزوجين الذي يترك عمدا لأكثر من أربعة أشهر ودون موجب قاهر زوجه مخلا بواجباته الزوجية
وهكذا قرر القضاء أن امتناع الزوجة عن تنفيذ الحكم القاضي عليها بالرجوع لبيت الزوجية لا يشكل في حد ذاته جريمة إهمال الأسرة إلا إذا كانت الزوجة الممتنعة قد تنصلت لمدة تزيد عن الشهر عن واجباتها المادية والمعنوية الناتجة عن واجب الحضانة المترتب عنها اتجاه أبنائها .14
الفقرة الرابعة:إثبات الفساد والخيانة الزوجية
اعتبر الاجتهاد القضائي الخبرة الجينية وسيلة لإثبات قيام الجريمة بشروط بقياسها إما على التلبس أو الإقرار
وهكذا قرر القضاء أنه على أنه يتعين على القضاء أن يواكب التطورات العلمية،وهو ما يفيد مكنة اعتماد الخبرة الجينية في إثبات الاغتصاب
الخبرة الجينية مثبتة للعلاقة الجنسيىة ولا تعتبر حجة أو دليلا على استعمال العنف“.15وجاء في قرار آخر “لا يمكن اعتماد الخبرة وحدها لإثبات الجريمة بل يلتزم بتعضيدها بوسائل أخرى كإنكار المتهم العلاقة الجنسية بصفة كلية ولايفيده اعترافه بالفساد لنفي التهمة عنه”16
وهكذا إذا كانت الخبرة الجينية دليلا يثبت الممارسة الجنسية على الضحية من قبل المتهم فإنها ليست دليلا على جريمة الاغتصاب التي يتطلب توافر عنصر الإكراه “.17
المطلب الحادي عشر:التصرف في مال مشترك بسوء نية
ساهم الاجتهاد القضائي في تنبيه المشرع للخلل الذي يعتري صياغة هذه الجريمة بالنظر لكونها قيدتها بنوع معين من التصرفات وتمت مراجعتها بجعلها شاملة لمختلف التصرفات بدون تقييد،بتنصيص المادة 523 على تجريم التصرف بسوء نية في التركة أو جزء منها قبل اقتسامها أو في المال المشترك أو رأس المال،تماشيا مع ما قرره القضاء من أن مجرد الترامي على عقار مشاع بين الورثة وحرثه بدون موجب لا يشكل تصرفا في التركة بسوء نية عملا بالفصل 523 من القانون الجنائي الذي يقتضي التصرف بالبيع أو الرهن 18
كم قرر في نازلة أخرى أن الاستيلاء على المال المشترك لا يكفي.19
المطلب الثاني عشر:مدى شمول المصادرة في المخدرات للعقار
نصت المادة 440-13 من المسودة على مصادرة الأموال المتحصل عليها من ارتكاب الجريمة ،فالمشروع استبدل المبالغ المالية والتي كانت تفيد النقود إلى الأموال حتى تكون شاملة للمال كان نقودا أو منقولا أو عقارا،مسايرة لما أقره القضاء من عدم استيعاب الصيغة الحالية للنص لتمديد المصادرة للعقار تقيدا منه بالنص القانوني .
وهكذا اعتبر القضاء أن الفصل 11 من ظهير 21/5/1974 ينص على مصادرة المبالغ المالية المتحصل عليها من ارتكاب جريمة الاتجار في المخدرات ولم ينص على مصادرة العقارات مما يتعين معه رفع الأختام“.20
يستخلص من ذلك المساهمة الفعالة والإيجابية للاجتهاد القضائي في عملية صناعة التشريع سواء من خلال تبني المشرع لتفسيراته أو بإثارة انتباهه للخلل الذي يعتري النصوص والتي كشف واقع الممارسة القضائية عن عجزها عن مسايرة ظاهرة تطور الجريمة مما استلزم التدخل التشريعي
-مسايرة الاجتهاد القضائي للاتفاقيات الدولية والمبادئ الدستورية في تعليل الأحكام الجنائية
-الحاجة الملحة لنشر الأحكام القضائية لا سيما تلك الصادرة عن محكمة النقض لتعمميها وضمان حسن الاستفادة منها
-نشر الأعمال التحضيرية للقوانين بغرض تقصي إرادة المشرع في عملية التفسير
-الحاجة للدفع بعملية الاجتهاد القضائي نحو حماية الحقوق والحريات وصون الأمن القضائي
-تفعيل دور المحكمة الدستورية مستقبلا في مراقبة دستورية القوانين الجنائية ،وفي الرقابة على الدفع بعدم الدستورية بتنقية شوائبها الماسة بالحقوق والحريات
دكتور محمد الهيني
نائب الوكيل العام للملك
استئنافية القنيطرة – عضو نادي قضاة المغرب