محكمة النقض قاطرة الاصلاح القضائي
المقدمة :
لقد اقر الدستور الجديد في فصله 115 صراحة بالدور المحوري الذي يتعين على محكمة النقض ان تلعبه حينما بوا الرئيس الأول لمحكمة النقض رئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، بعد ان كانت تمارس عمليا في الدستور السابق من قبل وزير العدل ,وكدا ما يمكن ان تسفر عنه النقاشات المحتدة بشان استقلال النيابة العامة عن وزير العدل و ايلائها للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتبار ان الدستور – في تقديري المتواضع -لم يحسم في هده النقطة . هدا الفصل المذكور هو في الحقيقة تفعيل لما ورد في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الندوة الدولية حول مستقبل العدالة في القرن الحادي والعشرين التي نظمها المجلس الأعلى – محكمة النقض –تخليدا للذكرى الخمسينية لتأسيسه والتي تمت فيها دعوة أسرة محكمة النقض الى مضاعفة الجهود لجعلها قاطرة الإصلاح المنشود . إلا أن هذا الاعتراف الدستوري بالدور الكبير لمحكمة النقض غير كاف وحده لكي تتبوا مكانتها بل هو رهين بتحسين أدائها من جهة وبالاعتراف لها باختصاصات جديدة لمواجهة المستجدات الراهنة من جهة اخرى.
أولا : تطوير اداء محكمة النقض
إن ما افرزه الدستور الجديد وما سيتمخض عنه من نصوص تنظيمية تفرض على محكمة النقض تحسين أدائها والرفع من إيقاع اجتهاداتها باعتبارها اعلى هيئة قضائية وطنية . فهي مدعوة الى فرض النصوص القانونية على ارض الواقع وبعث الروح فيها وسد النقص الذي يمكن ان يعتري بعضها ,لان المشرع مهما توخى الدقة والكمال في عمله لا يستطيع ان يحيط بكل شيء .
لقد آن الاوان لميلاد اجتهادات قضائية وابداع نظريات تعكس مكانة هذه المؤسسة والامثلة كثيرة لا مجال لسردها في هذا الحيز الضيق نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الفصل 114 من الدستور الذي سمح بالطعن أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة في المقررات المتعلقة بالوضيعات الفردية الصادرة عن المجلس الاعلى للسلطة القضائية بسبب الشطط في استعمال السلطة . فالفصل المذكور انتصر لموقف الفقه الدي كان يميز في الظهائر بين ما هو اداري و ما هو سيادي فأجاز الطعن في الاول بخلاف موقف القضاء الدي استقر على عدم قابلية الطعن في الظهائر أيا كان نوعها . و هي دعوة صريحة لمحكمة النقض بالدخول بدون تردد في عصر قضائي جديد يحتم تطوير الاجتهادات القضائية التي عمرت طويلا و استقرت على تداولها اجيال من قبيل ” حكم عبد الحميد الرنده , و مزرعة عبد العزيز و غيرها … “
إن من شأن الابتكار وإبداع المبادئ والنظريات في ظل النصوص القانونية كفيل بخلق مناخ يتم فيه التراشق بين الفقه والقضاء باعتبار أن كل منهما يكمل الآخر ، ويساعد بالتالي على انفتاح محكمة النقض على محيطها لسماع نبض المتقاضي و الباحث على السواء والاسهام في تنشيط النقاش المنتج والارتقاء بالقضاء الى سلطة كاملة و جعله واقعا كما أريد له دستوريا .
ان الرقي بمستوى محكمة النقض يقتضي مراعاة مسار قضاتها و مستواهم و ممارستهم بمحاكم الموضوع قصد الاستفادة من الخبرة التي اكتسبوها في مسارهم القضائي ,و حث رؤساء الغرف – خاصة القدامى منهم – على المساهمة في اغناء النقاش الدائر في الساحة القضائية وطنيا و دوليا ,مع ايجاد الآليات التي تمكن من استفزاز ملكاتهم و عدم تركها حبيسة المداولات التي لا يتسرب منها سوى التعليلات التي لا يمكنها لوحدها ان تعكس مستواهم الرفيع . كما أن دور المحامين لا يقل أهمية عن دور القضاة ، فبدون مساهمة فعالة للمحامين لا يمكن الرقي بمستوى محكمة النقض ,وبالتالي فهم مطالبون بدورهم بتطوير ادائهم و الاستفادة من الكفاءات الرائعة التي تتوفر عليها هيئاتهم , وفي هذا الإطار نشاطر رأي المنادين بضرورة إعادة النظر في المسطرة المتبعة في قبول المحامين للترافع امام محكمة النقض على اعتبار ان الاعتماد على معيار الاقدمية لم يعد مسايرا للتطور الحديث في ميدان المحاماة السائر نحو التخصص ، ومن اللازم الأخذ بمعيار الكفاءة والتمكن من مسطرة النقض نظرا لخصوصية هذه المسطرة وطبيعتها التي تستلزم تكوينا خاصا من شأن التعمق فيه أن يعطي لمساهمة المحامين في تطوير الاجتهاد القضائي دورا اكثر فعالية واشد تاثيرا.*2
وبالرغم من تسليمنا بضرورة تحسين اداء محكمة النقض إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب عنا المجهودات الجبارة المبذولة في هذه المؤسسة وكذا ما تحقق من اهداف على يد قضاتها منذ انشائها سنة 1957 حينما وجدت نفسها امام تشعب تشريعي وتنوع في تطبيق القانون الى دفاعها على سيادة القانون واستكمال بناء الدولة الديمقراطية فتكريسها لاجتهادات نيرة بتطرقها لإشكال تعارض القانون الوطني مع الاتفاقيات الدولية واستمرارا في التحديث بدخولها عالم الشبكة العنكبوتية والبقية تأتي .
إلا أن تطوير عمل محكمة النقض وحده غير كاف للارتقاء الى المستوى المطلوب بل لابد من الاعتراف لها باختصاصات جديدة .
ثانيا : اعتماد اختصاصات جديدة لمحكمة النقض
من بين المشاكل التي تظل لا تساعد محكمة النقض على تطوير عملها ، كثرة القضايا المحالة عليها والتراكمات التي ترهق كاهل قضاتها والتي يخشى معها تغليب هاجس الكم على الكيف وبالتالي التضحية بجودة القرارات ، ومن هذا المنطلق فلا يعقل تقييم قاضي بأعلى هيئة قضائية وطنية استنادا الى عدد الملفات التي أنتجها وبالتالي فان الضرورة تقتضي البحث في إيجاد الآليات القانونية لتقليص عدد القضايا المعروضة على محكمة النقض اسوة بالدول الرائدة في هدا المجال كالاعتراف لها بدور وقائي واهليتها في توجيه التشريع المتعلق بمجالها ومراجعة شروط الطعون …
ا : الدور الوقائي – إبداء الرأي والمشورة –
يجب ان لا يقتصر دور محكمة النقض على البث في النزاع ، بل يجب ان يتعداه إلى الإفتاء قبل رفع المنازعات إلى القضاء ، ويسمح بناء على هذا الدور أن تضع محكمة النقض يدها على نقط قانونية خلافية لتقول كلمتها في حلها القانوني ، فهي المؤهلة للإدلاء بتفسير القانون بعد مجلسي البرلمان ولا معنى للممارسة الحالية التي يطلب بمقتضاها من الأمانة العامة للحكومة رأيها في معنى بعض القوانين فهي عضو من السلطة التنفيذية ولا محل لها من التشريع ولا من القضاء.*3
والجدير بالذكر ان القانون الفرنسي نحا هذا المنحى في القانون رقم 491-91 بتاريخ 15/05/1991 حينما اعترف لمحكمة النقض الفرنسية بحق ابداء الرأي والمشورة La saisine pour avis ذلك ان محاكم الموضوع وقبل البث في بعض الطلبات المتعلقة بتطبيق بعض النصوص القانونية الجديدة التي تكتنفها بعض الصعوبات في نزاعات متعددة معروضة عليها ، يمكن لها أن تطلب من محكمة النقض بمقتضى قرار غير قابل للطعن الرأي والمشورة ، ويتم البث في الطلب داخل اجل ثلاثة أشهر . ولقد ساهم هذا النص بشكل كبير في اختزال الجهد والوقت لمحكمة النقض الفرنسية . وما أحوج تشريعنا لمثل هذه التجربة خاصة في بعض القضايا المتشابهة التي تطرح على محكمة النقض بكثرة .
ب : مراجعة شروط الطعون
لعل ما أفرزته تجربة تعديل الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية والتي استثنت من اختصاص محكمة النقض الطلبات التي تقل قيمتها عن 20.000 درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عن مراجعة السومة الكرائية ، دليل على مدى نجاعة هذه الوسيلة التي خلصت محكمة النقض من عدة قضايا تثقل كاهل قضاة أعلى هيئة وطنية يفترض فيهم التفرغ لا بداع اجتهادات من شانها سد الثغرات الموجودة في النصوص عوض الانغماس في قضايا يتعين الحسم فيها امام محاكم الموضوع .
واعتقد جازما ان هناك من القضايا ما يتعين استثناؤها أسوة بما اشير إليه في الفصل المذكور
ج : حق التصدي
إن التصدي للدعوى من قبل محكمة النقض ، خلاف الأصل – الذي يقتضي منها إما قبول النقض مع الاحالة أو رفض الطلب- يهدف الى تفادي بعض الإحالات عندما يكون في متناول محكمة النقض انهاء النزاع بصفة نهائية وقد نص على ذلك الفصل 368 من ق م م لسنة 1974 : « إذا نقض المجلس الأعلى الحكم المعروض عليه واعتبر انه يتوفر على جميع العناصر الواقعية التي تبثث لقضاة الموضوع بحكم سلطتهم تعين عليه اعتبارا لهذه العناصر وحدها التي تبقى قائما في الدعوى التصدي للقضية والبث فورا في موضوع النزاع ، أوفي النقط التي التي استوجبت النقض ».
لقد كان من الحكمة أن لا تلغى نهائيا هذه الإمكانية بالاقتراب من التوجه العام للاجتهاد القضائي الفرنسي .*4
د : توجيه التشريع
لقد دأبت محكمة النقض منذ سنة 1998 على إعداد تقرير سنوي يتضمن دراسات قانونية واقتراح تعديل بعض التشريعات انطلاقا من التجربة التي تعيشها بمناسبة النظر في الطعون بالنقض إلا أن هذه الاقتراحات لا يتم التعامل معها بالجدية التي تستحقها وبالتالي فمن الواجب اعتبار هذه المقترحات كمشاريع قوانين يتعين أن تأخذ مسارها نحو التقنيين وذلك بالنص على ذلك صراحة في صلب القانون ، فأهل مكة أدرى بشعابها .
الخاتمـــــــــــــــة
إذا كانت مهمة محكمة النقض هي الحرص على تطبيق القانون ومراقبة صحة القرارات القضائية وضمان وحدة الاجتهادات فهي بهذا المعنى تجسد جوهر الأهداف التي يرمي إليها إصلاح العدالة ، ولعل محكمة النقض باعتبارها ملتقى لكافة الفعاليات التي تساهم في بناء صرح العدالة ، القاضي والمحامي والباحث فهي بذلك بحق قاطرة لإصلاح العدالة ببلادنا .
الهوامش
2- « *النقيب ادريس شاطر – دور المحامي في تطوير العدالة – مستقبل العدالة في القرن 21 – صفحة 129* »
3- « * الإدريسي مشيشي علمي * » – مستقبل العدالة في القرن 21 – تأملات في القانون الخاص حاضرا ومستقبلا – صفحة 91 – .
4- « *محمد الحبيب الفاسي الفهري مسار القضاء المغربي ص 413* ».