تُركِّزُ “الميديا” المغربية، ونحن في أوج الحملة الانتخابية، على وجود قطبية سياسية ممثلة في “البيجيدي” و”البام”. تحاول هذه “الميديا” أن تخلق الانطباع لدى الجمهور بأن الصراع على أشده بين هذين الحزبين، وأن انتصار أي منهما سيتيح له فرصة قيادة البلاد وتوجيه دفة الحكم فيها بالطريقة التي تروقه وتبدو له مناسبة.
غير أن القارئ للحياة السياسية المغربية والمتتبع لأحداثها ولتاريخها لا يمكنه القبول بمثل هذه الأقوال التي تقدم لنا كأنها مسلمات وبديهيات لا مجال لمناقشتها. النظام السياسي المغربي لا يسمح بوجود قطبية سياسية في البلاد، ولن يعبد لها الطريق لكي تكون سالكة في وجهها.
وجود قطبين سياسيين يعني محدودية الاختيار أمام المؤسسة الملكية، فواحد منهما ستكون له الأغلبية في البرلمان، وإذاك سيصبح قوة لها القدرة على منافسة السلطة التي لدى الملك، وبالتالي يسعى إلى التعامل معه بندية.
نحن نعلم أن الملكية، منذ الحصول على الاستقلال، أرست بنفسها قواعد اللعبة السياسية التي قوامها وجوهرها ألا يكون لأي حزب سياسي مغربي الأغلبية البرلمانية مهما كانت قوته الشعبية، القرار الحاسم والنهائي للدولة المغربية هو ألا تكون في هذا البلد السعيد إلا حكومات ائتلافية تضم في صفوفها مختلف المتناقضات.
وحين تكون الحكومة مشكلة من أحزاب متعددة وذات مشارب سياسية مختلفة، وأحيانا متناقضة، فإنها تكون دائما في حالة من عدم الانسجام وغياب التوافق، حتى لا نقول الخصام والصراع الخفيين، ونتيجة لذلك، يصبح الملك هو الحكَم بين مكوناتها، أي إنه يتحول عمليا إلى الحاكم الفعلي للبلد، بصرف النظر حتى عن الصلاحيات الواسعة التي يمنحها له الدستور لممارسة الحكم؛ ولذلك يبدو الحديث عن وجود قطبية سياسية في المغرب حديثا بلا معنى ولا مضمون.
يضاف إلى هذا أن “البيجيدي” و”البام” لا يختلفان في توجهاتهما واختياراتهما الكبرى لكي يكونا حزبين متضادين ويشكلا قطبية سياسية؛ إنهما يمثلان وجهين لعملة واحدة، فكلاهما خرجا من رحم المخزن. وليس في الأمر أي مبالغة عندما نقول إن “البام” هو الاسم الكودي لـ”الفديك”، الحزب الذي أنشأه رضى اكديرة في بداية الستينات، وشارك به في الانتخابات سنة 1963، وبوأته الإدارة الصف الأول أثناء إعلان نتائج الانتخابات. كما أن الملكية هي التي كانت أساسا وراء خلق الحركة الشعبية، والتجمع الوطني للأحرار، والاتحاد الدستوري.
القاعدة المعمول بها في المغرب هي أنه كلما كان هناك حزب سياسي بدأت تتشكل لديه جماهيرية شعبية عريضة يمكنها أن تتوسع، وقد يصبح في ضوئها منافسا للمؤسسة الملكية، إلا ويتم خلق حزب بجواره، وتقدم له الإدارة كافة الوسائل والإمكانيات ليصبح بين عشية وضحاها الحزب المهيمن الذي يرأس الحكومة ويقودها..الدولة لا تسمح بوجود الحزب السياسي القطب لكي يكون أمامه حزب قطب آخر معارض له.
“البيجيدي” نفسه تم احتضانه ورعايته وتقديم الدعم له من طرف أجهزة الدولة حين كان شبيبة إسلامية، والشاهد على ذلك الاعترافات التي قدمها الكوميسير الخلطي، الذي كان صلة وصل بين بنكيران والدولة. وباتفاق مع الملكية احتضن الدكتور الخطيب هذه الشبيبة وجعل منها حزبا سياسيا أطلق عليه اسم العدالة والتنمية؛ وحدث ذلك في اللحظة التي كانت الخلافات على أشدها بين المؤسسة الملكية والكتلة الديمقراطية.
الخطيب عاش حياته كلها خادما مطيعا للأعتاب الشريفة. كما أن علينا ألا ننسى الرسالة التي بعث بها بنكيران ظغلى وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري. “البيجيدي” إذن مثل “البام”، تأسس تحت كنف الدولة وفي حضنها.
غير أن هذا لا يمنع من التنبيه إلى أن بنكيران وأصحابه قد يكونون قبلوا بهذه اللعبة في نطاق توظيفهم لمبدأ التقية، مؤمنين بالشعار الذي يقول: تمسكن حتى تتمكن؛ فعقيدتهم الحقيقية تعتمد على مقولة الولاء والبراء كما ترويها الكتب التراثية، إنهم يؤمنون بمبدأ: “الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله”. وطبقا لهذا المبدأ، إذا اختلفت مع إسلامي حول اختيار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو تعليمي، فبمقدوره اتهامك بأنك ضد الإسلام وضد الله، وأن عليه معاداتك وبغضك في الله، وربما حتى تصفيتك في الله.
لم يتخل البيجيديون عن أفكارهم وولائهم لابن تيمية، إنه معلمهم الأكبر، ومنه يستمدون التوجيهات والقناعات، ولا يترددون في الجهر بذلك وإعلان التمسك بهذه العقيدة. والكل يعلم أن آل سعود والوهابية والنصرة و”داعش” وجميع الحركات التكفيرية التي تعيث في الأرض فسادا نابعة من فتاوى ابن تيمية.
وكنتاج لهذا الفكر يمكن تقديم نموذج العضو في “البيجيدي”، الذي دعا إلى ذبح وفصل الرأس عن الجسد والتشويه والتمثيل بجثة كل من يخالف “المصباح” الرأي وينتقده، وترشيح حماد القباج، الذي دعا إلى قتل جميع اليهود، واستعمال الديمقراطية وسيلة للوصول إلى الحكم، ووقتها يتم الشروع في تطبيق الشريعة.
“البيجيدي” لا يختلف في نشأته عن “البام”، وهو أيضا حزب ملكي في الوقت الراهن، ولكن قناعاته الباطنية التي يضمرها ويكشف جزءا منها بين الفينة والأخرى هي التي تجعل المؤسسة الملكية تحتاط منه ولا تعطيه ثقتها الكاملة، ولن تسمح له بتشكيل قطب سياسي كبير ليحكم بمفرده؛ ولذلك فإن أي حديث عن قطبية سياسية في المغرب يبدو في غير محله، ومخالفا للحقيقة السياسية المغربية.